الإسلام والعدل

الباحث: صباح محسن كاظم 

تتوق جميع البشرية لتطبيقات العدالة الإنسانية بالأنظمة والقوانين ومراعاة الحقوق لتحقيق الكرامة الإنسانية، وقد أجمع معظم  العلماء و المؤرخين والمفكرين من كل العقائد والأديان بأن العدل  النبويّ  المحمديّ  يمثل ذروة التشريعات لإرساء المبادئ والمُثل التي تحترم حقوق الإنسان، بعد الجاهلية العمياء بوأد الأنثى، والثأر، واللصوصية والسلوك المنحرف، الرسول العظيم والنبي الخاتم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وآله- يمثل عدالة السماء بالأرض، كانت دعوته لإنصاف جميع المظلومين والمعذبين من المُستغلين، فالمساواة بين الأغنياء والفقراء هدت أركان الظلم المتفشي بأوساط الجزيرة العربية لينطلق النور والضياء وشمس الحرية بدلاً من الرق والعبودية..

لذا إلتفّ الصحابة حول المصطفى وبدأت الدعوة الإسلامية تستقطب المجتمع  المكي والمدني رغم مقاومة جميع المشركين والمنافقين  وشنهم الغزوات والمعارك ضد نبينا الخاتم المؤيد المسدد أبا القاسم  محمد - صلى الله عليه وآله - وخاض غمار أكثر من 83 معركة وغزوة لصد جحافل الشرك وخرج منصوراً مسدداً مؤيداً بملائكة السماء والأرض وابن عمه وحامل اللواء الإمام علي بن ابي طالب - عليه السلام- والصحابة  الأبرار الذين عاضدوا وساندوا رسول الله طوال حياته. كذلك تمثل حكومة الإمام علي -عليه السلام- بجميع المواقف قبل خلافته وأثناء الحكم العادل المثالي استمراراً للمنهج المحمدي بتطبيقات العدل، من هنا رمزية العدالة تقترن بسيد البلاغة وفارس الوغى القرآن الناطق والهادر بالحق الذي تعده البشرية رائد العدالة الإنسانية كما بإعلان الأمم المتحدة القرن الماضي.. عن إمامنا علي بن ابي طالب -عليه السلام- الذي شغف بحبه القاصي والداني لسجاياه المثالية وعصمته المؤكدة فهامت به القلوب والعقول من فجر الإسلام لليوم الموعود حيث مثل العدل المطلق بميزان الحقوق كما أراد له القرآن الكريم والنبي العظيم، لم يؤمن بالتنظير بل بالتطبيق هذا ما ميزه عن سائر الحكام والمصلحين.

كما ببعض من شذرات وجواهر ودرر أقواله بنهج البلاغة: وأن تكونوا عندي في الحق سواء -ما جاع فقير إلا بما متع به غني- ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع - أشقى الرعاة من شقيت به رعيته - وإنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل.. صيانة المال العام والوقاية من المضاربين والمتلاعبين من أصحاب الدناءة يحتاج الصرامة بالقانون وتنفيذه لذا لم تتهاون الشريعة بقطع يد السارق  للردع وتدابير وقاية لكي يخشى العقوبة ممن تسول له نفسه السرقة وبالتالي يأمن المجتمع على حقوقه. كما ورد بالقرآن الكريم 1: بسم الله الرحمن الرحيم والسارق والسارقة فأقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم. المائدة 38

أدلة الإثبات الجزائية في قضاء الإمام علي عليه السلام

برسالته للماجستير من جامعة المصطفى العالمية 2016 أكد الباحث الجاد "حسن البصام" 2- ص17، أول القوانين حيث تتبّعَ المؤلف بكتابه التشريعات الأولى ليدعم بحثه بوقائع من حضارة بلاد ما بين النهرين كما بزمن الملك السومري (لوكال زاكيزي) الذي اعتمد التدوين الأول. وقام أور كاجينا بإصلاحات في لكش وقدّم أول الشرائع بالتاريخ البشري حيث عمد لتخفيف الضرائب وسن أول قانون لحقوق الإنسان وظهرت لأول مرة كلمة (الحرية) أمارجي 3- ص66. 

ويؤكد المؤلف حسن البصام: ((تضمن هذا القانون العديد من النصوص  لمبادئ حقوق الانسان التي تم إقرارها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وأن من تلك الحقوق تحريم المساس بجسم الإنسان والذي جاء نصه في المواد من ( 15- 19) إذ تنص المادة (16) على: (إذا حطم رجل متعمداً طرف رجل آخر بهراوة، عليه ان يدفع مناً واحد من الفضة..)) ومن الطبيعي أن العمق الحضاري السومري يفيء بضلاله على المشرعين والمقننين للائحة حقوق الإنسان ومنع الاستئثار  والاستحواذ غير الشرعي والقانوني على المال العام والممتلكات العامة  للحد من تلك الظاهرة التي تُشاع بأوطاننا.

سيرة ألق وإبداع

حينما تبحث عن الأدب والأخلاق والإبداع يبرز "حسن البصام" الذي برع بالقصة والشعر والنقد وكتابة الفكر، منجزه المتنوع أثرى بلغته وخياله أزاهير ورياض وبساتين الكتب بعدة مؤلفات متتالية، فضلاً عن رسالته بالقانون والحقوق بالماجستير والدكتوراه، مكَّنته للتفوق بمسارات الدراسات العميقة المنهجية لتفتح له الآفاق الشاسعة للدخول بغمار البحث والتقصي والحفر المعرفي والتاريخي الاستدلالي والاستنباطي حول الحقوق  بفضاءات  القضاء العلوي  الحكيم.

ان شخصية الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام تجعل كل باحث يتوق لتحقيق  المعرفة الحقيقية بعمق برسالته العلمية، كما برع "البصام" برسالة الماجستير ((أدلة الإثبات الجزائية في قضاء الإمام علي عليه السلام)) التي صدرت عن دار أمل الجديدة بسوريا، وكانت المصدر لديَّ برسالتي العلمية بلبنان: ((الإمام علي عليه السلام في الفكر المسيحي عند الأدباء والمؤرخين جورج جرداق - بولس سلامة - سليمان كتاني)). ويؤكد الدكتور البصام في كتابه الوقاية من الجرائم المالية في القانون العراقي والفقه الإسلامي 2- ص11: ((يعتبر المال من المصالح الجوهرية التي تقتضي الحماية في القوانين الوضعية والشريعة الإسلامية، لأن المال لا غنى عنه لاستمرار الحياة، والشريعة الإسلامية جعلت منزلة الذي يُقتل دفاعاً عن ماله شهيداً. إن الإستيلاء على أموال الأفراد سواء كان بدون رضا المالك كالسرقة، أو يكون برضاه باستخدام الغش أو الخداع أو التدليس أو خيانة الأمانة أو الاحتيال، ماسة بأمان المجتمع واستقراره، ولهذا فإن الجرائم المالية تؤدي إلى انهيار المجتمعات وتفككها وتخلفها بسبب عجز المشرع وعدم جديته للوقاية منها.))

رسالة الدكتوراه والقيمة العلميّة

ركز الدكتور حسن البصام بأطروحة الدكتوراه التي حوّلها لهذا الكتاب القيّم (المنهج المحمدي والعلوي في الوقاية من الجريمة المالية) الذي أثرى به المكتبة القانونية العربية والإنسانية من خلال فصوله الشيّقة من المبحث الأول إلى جميع صفحات الكتاب بفصوله الثريّة حيث درس، وحلل، واستنتج، واستنبط  المنهج الإسلامي من القرآن والسنة النبوية الشريفة والسيرة العلوية العطرة حيث بدأ  بتحديد المعالجة والوقاية من الجريمة في الشريعة الاسلامية.

وتناول هذا المبحث في ثلاثة مطالب، الاول: طبيعة العقوبات في الجاهلية، والثاني: الوقاية من الجريمة في القران الكريم، والثالث: التدابير الوقائية قبل ارتكاب الجريمة المالية في الشريعة الاسلامية.

وناقش المؤلف كل الجوانب من التعريف اللغوي والتعريف الإصطلاحي والإثبات  كما ركز ((الإثبات في الفقه الإسلامي، عرف الفقهاء الإثبات مقتصرين على معنيين عام وخاص ويقصدون بالعام: اقامة الحجة مطلقاً سواءً كان ذلك على حق أم على واقعة، وسواء أكان أمام القاضي أم أمام غيره. وسواء ً كان عند التنازع أم قبله، وتوسّعوا في إطلاق معنى الإثبات فتشمل توثيق الحقوق عند إنشائها والديون وكتابة المحاضر والمستندات وغير ذلك من المجالات العلمية، فكل علم لا قيمة إلا بإثبات صحته)).

المرتكزات الأساسية التي ينطلق منها "المؤلف" كالعدالة والحرية والقيم التي تمثل جميع المطالب الحقة لدى الشعوب والأمم، من هنا يبرز فحوى الأطروحة وشموليتها القانونية وتركيزها على المبادئ السامية التي كانت مرتكزات العدل العلوي المُستمد من المنهج النبوي من خلال عبارات دقيقة منتقاة بعناية بنسق معرفي يحمل دلالات عميقة عن رؤية رسول الله لتطبيق العدل، حيث أكد في سياسة التجريم والعقاب عند الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وآله): ((منذ تكوّن المجتمعات الانسانية الاولى، فان الغذاء والأمان هما غاية الانسان وطموحه. الغذاء كي يعيش، والامن للاستقرار وممارسة العمل بحرية، وحياة تتنامى فيها الحضارة والابداع والتطور. وان هذا الامن لا يتحقق الا بوجود سلطة تنظيمية لشؤون الحياة وحماية مصالح الافراد، وهي سلطة القانون التي تأخذ اشكال متعددة، من سلطة الاب الى العشيرة الى القبيلة الى الدولة. ولا يكفي ان تُنَظَّم هذه الحياة بأنساق العدالة، انما يجب ان تكون العادات والاعتقادات والاعراف تنسجم مع مكانة الانسان وطموحه، الاعراف السائدة في المجتمعات القبلية قبل الاسلام مبنية على القتل والسلب والنهب واستلاب انسانية الفرد بالرق والعبودية، وطبيعة هذه المجتمعات قد تم تنظيمها بهذا الشكل، لكن الشريعة الاسلامية وقفت عند كل هذه السلوكيات التي تنطوي على عدائية واجرام واهانة للانسانية وتعاملت معها من الاباحة الى التحريم، استناداً الى احكام شرعية بنص القران الكريم...)).

لاريب إن تطبيق القوانين بصرامة بعصرنا اليوم هو ما نحتاجه للضبط الاجتماعي بعد محاولات الإنفلات من أسوار التشريع والقانون من الذين أغوتهم الحياة الفانية وجعلت الحياة والوجود لا يطاق من كثرة السراق.. فالرادع الأول الوجدان إختفى من قاموس الشرِه والمتربص بالإستئثار بالمال العام من تغافل وتجاهل عقوبات السماء الدنيوية والأخروية..

وفي مجتزأ من سرديات الدكتور البصام يؤكد حول رؤية إمام العدل أمير المؤمنين بتطبيقاته للعدالة والوقاية من الجريمة المالية في نهج علي بن ابي طالب عليه السلام في آلية ترجيح أدلة الإثبات (لا يكتفي أمير المؤمنين علي عليه السلام بما تيسّر من أدلة ظاهرة دون أن يرتقي بالبحث الى التفرد بالجهد والذكاء تحقيقاً للعدالة، متمعنا  في الشبهات...)).

((ان علي بن ابي طالب عليه السلام، هو مؤسس الدستور القضائي وتشهد على ذلك فقرات العهد الذي كتبه إلى مالك بن الحارث الأشتر عندما ولّاه على مصر سنة 38 هجرية/ 658 ميلادية... وقد حارب بنفسه من خلال التجوال في الأسواق والبيوت علنا او جهارا، وتفقد الأحوال ومعالجة الظروف، وجميع مظاهر الجرائم وخاصة المالية منها.. كان حريصا جدا على الاستقامة في التعامل المالي ومحاربة السرقة وقطع الطرق وغيرها من مظاهر الفقر والجهل والحروب وقلة الوعي الديني والأخلاقي.. وكيفية التعامل مع الجريمة والمجرمين)).

المصادر/

1- القرآن الكريم.

2- أدلة الإثبات الجزائية في قضاء الإمام علي بن ابي طالب -عليه السلام-  حسن البصام - رسالة ماجستير - ص17

3- المنهج المحمدي والعلوي في مكافحة الجريمة المالية – د. حسن البصام -اطروحة دكتوراه - ص30.

4-  نفس المصدر ص 182.