هل بات أفول الغرب وشيكا ؟

قراءة في كتاب (موت الغرب) للكاتب الأمريكي باتريك جيه بوكانن  

د. علي ياسين

لعل مطلع الألفية الثالثة وقبلها بعقد كامل كانت أمريكا القوة الأعظم في العالم، فهي التي تأتي بأصحاب العروش وهي التي تطيح بمن يعارض سياستها من الدول والشواهد كثيرة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأبرزها تفكيك الاتحاد السوفيتي عام 1991م ثم الإطاحة بأعتى نظام دكتاتوري في العالم عام 2003م، وما تبعهُ من أحداث تثبتت هيمنة الغرب كقوة عظمى لا تنازعها قوة أخرى ولا تقف في وجهها ترسانة عسكرية لما تمتلكه من معدات وأساطيل وجيوش وأموال وأسلحة فتاكة.

وإذا كان هذا الأمر من البديهيات التي لا تشكل غرابة لأحد من المهتمين في الشأن السياسي أو العسكري؛ فإن الغرابة تأتى من ظهور كاتب غربي لامع ومن داخل الوسط الفكري والسياسي يتنبأ بقرب زوال الغرب كقوة حضارية مهيمنة عبر كتاب كان بمثابة الصدمة في الأوساط الفكرية والإعلامية في أمريكا خصوصا وأوربا عموما وبوصف الأخيرة تنتمي للحضارة الغربية وتمتد بامتدادها وتنكمش لانكماشها.

(موت الغرب) عنوان هذا الكتاب الصادم الذي ظهر قبل بدايات العام 2000م والذي تنبأ فيه كاتبه المولود عام 1938م، والمشهور في الأوساط الأكاديمية والإعلامية الأمريكيّة بقرب زوال المركزية الغربية على الرغم من كونها زمن نشر الكتاب بأمريكا في أوج عظمتها كما تخيّل ذلك زعماؤها والمعجبون في مؤسساتها وإنجازاتها، فما هي دعوى (بوكانن) في كتابه الذي كان بمثابة الصاعقة على كل من قرأه بجد من المروجين للأفكار الغربية وللروح الأوربية وللتقاليد الأمريكية التي يحدد هذا المفكر والسياسي والإعلامي الأمريكي في كتابه ذي الفصول العشر بما يتجاوز الخمسمائة صفحة بترجمته العربية التي تولاها محمد محمود التوبة وراجعها محمد بن حامد الأحمري ونشرت من خلال دار العبيكان عام 2005م، وفيه يفتح الكاتب باب الجدل واسعا على أطروحاته الفكرية ومزاعمه التي يسوقها لإقناع قارئه بالنهاية المرعبة للحضارة الغربية التي باتت وشيكة الأفول إذا ما أخذنا العوامل والأسباب التي تهدد هذه الحضارة بمأخذ الجد!

ويستبعد (بوكانن) في كتابه أن تكون النهاية الوشيكة قادمة بفعل نيزك ضخم يضرب أمريكا أو أوربا فيفني فيها الشجر والبشر والحجر، ولا يرجح - كذلك- أن تكون النهاية بفعل صاروخ نووي عابر للقارات يأتي من دول أخرى تعارض مصالحها مصالح الغرب فيترك العمران خرائب وأنقاضا وركاما، ولا من وباء يظهر محضّرا بالمصانع الجرثومية فيبيد الملايين ولا يبقي إلا على التراب والهواء والشمس... لكنه من ماذا يا سيد (بوكانن)؟

ينطلق (بوكانن) المعاصر لصعود أمريكا العالمي بحكم عمله السياسي مستشارا لثلاثة رؤساء أمريكا، وبحكم ترشّحه لرئاسة الولايات المتحدة عن حزب المحافظين عام 1991م، في تحديد أسباب هذا الأفول من الوضع الاجتماعي والثقافي المزري الذي وصلت إليه الحياة في الغرب بفعل السياسة الاستعلائية الطامحة للهيمنة والتسلط، فتوجه للسياسيين الأمريكيين بالقول: (ما الذي يجنيه الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر بلده الذي يعيش فيه؟)، ورغم أن أفكار الرجل ليست جديدة فهو قد وضع النقاط على الحروف في كتابه هذا ليشعل جدلا محتدما حول طروحاته التي باتت ملامح تحققها بعد ثلاثة عقود على ظهور الكتاب أكثر وضوحا.

وأساس العقدة الاجتماعية في الغرب - كما يرى صاحب الكتاب - تكمن في إباحة العلاقات الاجتماعية القائمة على المنفعة وتحقيق اللذة بغض النظر عن مصدرها، وبغض النظر عن نوع الشريك حتى لو كان منافيا للفطرة الكونية القائمة على ثنائية ذكر وأنثى مما فتح الباب واسعا لضرب نواة المجتمع الرئيسة (الأسرة) الأمر الذي أوصل الغرب إلى الدفاع عن حقوق (المثليين) وعن الزواج من الحيوانات!!!

إن عزوف الغربيين عن الزواج بسبب الحرية الجنسية وإباحة القوانين للعلاقات خارج إطار الأسرة الواحدة أو ما يعرف بـ(المساكنة) أدى إلى امتناع الأوربيين عن الإنجاب وحتى لو حصل الإنجاب فمصير الطفل دار إيواء المشردين أو التبني من أسرة هرمة لا تمت له بصلة، ومؤدى ذلك تمزق اجتماعي وهرم مبكر للمجتمع الأوربي الذي تنبأ له (بوكانن) أن يكون بمطلع العام 2025 -2035 عبارة عن شيوخ وعجائز بلا أسر وبلا عوائل وفي ذلك تمزق للمجتمع من خلال عدم القدرة على تجديد نفسه إسوة بالولادات الكثيرة عند المجتمعات المسلمة أو المجتمعات الأسيوية والأفريقية.

وسيقابل ذلك اضمحلال واضح للسلالات الأمريكية والغربية مقارنة بسلالات الوافدين من المسلمين والمكسيكيين في أمريكا ومن المسلمين والأفارقة والأسيويين وسواهم في أوربا، أضف إلى ذلك فإن الغرب ربى أجياله على ثقافة أن الزيادات السكانية هي أكبر الأخطار التي تواجه المجتمعات المتحضرة والسعيدة مخالفا بذلك فكرة دينية مسيحية مفادها أن من فتح الأفواه تكفل لها بالرزق لذا فإن إلغاء تخفيف الإنجاب أو تخفيفه إلى طفل واحد أفضى إلى تآكل هذه المجتمعات وهذا التآكل سينتهي إلى الانقراض النهائي مستقبلا بحسب الكتاب.

وعلى ضوء هذا السلوك الاجتماعي بدأت تظهر الإحصائيات المرعبة في المجتمعات الغربية التي أظهرت الإحصائيات الأخيرة نسبا متدنية في معدلات أعمار الشباب قياسا بمن تجاوز العقد السادس من العمر الذين أظهرت الإحصاءات الأخيرة نسبا تقترب من الـ(80 بالمائة) من مجموع السكان بين الأمريكيين، الأمر الذي دعا البابا وهو أعلى سلطة دينية في المجتمعات المسيحية الناس إلى التخلي عن تربية القطط والكلاب والحيوانات والاستعاضة عنها بالإنجاب بعد أن رأى الخطر المحدق الذي من الممكن أن تصل إليه هذه المجتمعات.

ومن الأخطار الأخرى التي تحدث عنها الكتاب على المجتمع الغربي هو كثرة الوافدين والمهاجرين الباحثين عن فرص عمل في هذه المجتمعات الهرمة، ومكمن الخطر في هؤلاء المهاجرين يتمثل في رفضهم الانصياع لشروط الحياة الغربية وانعزالهم عن المجتمع الأمريكي والاعتزاز بتقاليدهم وثقافتهم التي تجبرهم على عدم الذوبان في المجتمعات الغربية، فضلا عن انضمام أغلب هؤلاء الوافدين إلى أسر منجبة مما سيشكل زيادة سكانية بدت ملحوظة بعد كتابة الكتاب بعقدين أو ثلاثة، وهو ما تنبأ به الكاتب الأمريكي (بوكانن) الذي صدم المجتمع الأمريكي بهذه الحقائق قبل تحققها على أرض الواقع.

وربما كان أشد الأسباب الموجبة إلى تلاشي الغرب وأفوله بحسب الكاتب يمثله ما أسماه بـ(التردي الأخلاقي) للمجتمع الغربي الذي أصبحت تسوده مبادئ الربح والنفعية في كل علاقاته الإنسانية، وصار فيه مبدأ تحقيق اللذة فوق كل اعتبار أخلاقي، الأمر الذي أدخل المجتمع الغربي في دوامة من الحيرة والتيه وأصبحت الحياة بالنسبة إليه فترة معاشة لا لغرض الانتاج والابداع والمعرفة وإنما هي فترة قصيرة لتحقيق السعادات السريعة والأرباح الوفيرة بغض النظر عن مصدرها وبغض النظر إذا ما كانت هذه الأرباح سبيلا لإلحاق الضرر بآخرين من المجتمع نفسه.

إن هذا الاضمحلال والتلاشي في المجتمع الغربي يقابله نهوض ونمو وازدهار في المجتمعات الأخرى كالصين والهند في آسيا والبرازيل في أمريكا اللاتينية، وقد أخذت هذه الدول قيمة التكنلوجيا في ردع الهيمنة الغربية باتت اليوم دولا تقف بموازاة الدول الغربية الكبرى، مما يؤكد صحة فرضية الكتاب، ولعل في خوف أمريكا الحقيقي من المارد الصيني العملاق القادم بقوة لاكتساح الهيمنة الاقتصادية الأمريكية التي دامت طويلاً ما يؤكد فكرة أن الغرب بدأ بالتلاشي والزوال، وربما ستخبئ السنوات القليلة القادمة مفاجآت من العيار الثقيل بهذا الخصوص...