دور العلم في التنمية الوطنية الشاملة

البروفيسور علي عبد فتوني  /لبنان

الهدف الأساسي من هذه المقالة هو محاولة الكشف عن دور العلم في التنمية الوطنية الشاملة ، والتعرف على كيفية الربط بين التخطيط للتعليم والتخطيط للتنمية الإقتصادية والتقدم الإجتماعي ، سيما أن الوطن العربي يمر بأزمة قاسية ومآسي متلاحقة لها نتائجها المصيرية الخطيرة. وكذلك الحاجة  الى التعليم حيث هو منهج مستخدم في كل أنحاء العالم وعبر كل العصور ، وقوامه أن ينقل كل جيل معارفه وعلومه الى الجيل الذي يليه ، على الرغم من إتساع أبعاده بفضل سرعة وسائل الإتصال الحديثة .

إنطلاقا" من ذلك تبرز الحاجة الى دولة العلم في مجتمعنا العربي ذلك أن للعلم دولة ، كما أن للسلطة السياسية دولة أو العسكرية دولها ، وللمال دولة ، وللقانون دولة  ، الى غير هذه وتلك من الدول التي تميز الأمم بعضها عن بعض . ودولة العلم عندما تكون قائمة لا تنحصر في نظام أو جهاز من أنظمة المجتمع وأجهزته ، وإنما تنبت فيها جميعا" : في الأسرة ، والمدرسة ، والجامعة ، والمصنع ، والجيش ، فتوليها خصائصها وتطبعها بطابعها .

العلم هو المدخل الصحيح ، إن لم يكن الأوحد في بناء المجتمعات ، وترسيخ مفهموم الديمقراطية ، وتدعيم مبدأ العدالة الإجتماعية ، وإحترام  حقوق الإنسان ، أي بعبارة أدق وأعمق يمكن إعتبار العلم الأداة الصالحة في تغيير المجتمع لجهة تطوير أوضاعه وبناء إنسانه . والعلم بمفهومه الواسع هو إعداد للحياة ، إن لم يكن الحياة عينها بكل أبعادها ومضامينها . وهو عملية نمو وتكامل ما دام الإنسان ينمو ويتكامل ، والعلم هو تجسيد للتراث الثقافي الإجتماعي لأي شعب ، متضمن قيمه وعاداته وتقاليده ، ويعبر عن أمانيه وطموحاته، منظم لعلومه واكتشافاته . كما ينتقل مع الأجيال عبر الممارسات اليومية والمشكلات الحياتية والحاجات المجتمعية والتقاليد الشعبية .

والعلم في المفهوم العالمي يعتبر مفصلا" حيويا" ، إذ يهدف الى تحسين ظروف الحياة في الحاضر ، وإعداد ظروف الحياة في المستقل.  وقد نبهت عدة منظمات ودول لهذا الشأن عندما تصدت لمهمة النهوض التربوي في الحقبة الأخيرة ، وعلى أكثر  من صعيد . كما أن معظم الأنظمة العالمية ترى أن تربية وتعليم الإنسان المعاصر هي مشكلة من أصعب المشكلات ، وجميع الأقطار تعتبرها عملا" مهما" للغاية .

وأصبحت الدولة التي تمتلك مقاليد العلم والتكنولوجيا ، والتي يتميز مواطنوها بوعي ينعكس في تصرفاتهم اليومية هي الدولة الأقوى ، ومن هنا أصبح على العلم أن يواجه المتغيرات المتلاحقة الناتجة عن التفاعل المستمر بينه وبين التكنولوجيا . والدور الأكثر للعلم هو أن يعمل على إعداد جيل يتسلح بأكبر قدر من المعارف والمهارات التي تؤهله لمواجهة الحياة .

والجدير ذكره ، أن التحديات المعاصرة التي تواجه العالم ككل هي تحديات كبيرة ، ومع كونها ذات سمات عامة ، إلا أنها تختلف بين منطقة وأخرى بحسب إختلاف الظروف في  كل منها . وإن التحديات المعاصرة التي تواجه مختلف الشعوب العربية تدور حول التحدي الثقافي أو الحضاري ، وتتلخص أساسافي كيفية الإحتفاظ بالخصوصية الثقافية في مواجهة الغزو الثقافي العالمي من خلال الإنفتاح على العالم ، والتطور الهائل لنظم الإتصالات ووسائل الإعلام .

فقد أظهرت التغيرات الإقتصادية المتسارعة حقائق ومشكلات إجتماعية جديدة ، وتغيرت أمور كثيرة كانت من الثوابت ، والعلم يساهم في تنمية القدرة على التكيف الإجتماعي المناسبة لهذه التغيرات ، إضافة الى التحديات العلمية والتكنولوجية .

فالعلم أصبح أسلوب الحياة ، والتقدم التكنولوجي يسير بسرعة هائلة ، وحيال ذلك من الضروري أن تستهدف المناهج تنمية أسلوب التفكير العلمي ، وروح الإستكشاف ، والميل الى المشاهدة ، ومهارات التحليل والإستنباط والإستنتاج لدى الطلاب .

تجدر الإشارة الى أن التحديات العالمية الراهنة والمستقبلية في شتى جوانب الحياة ، تحديات خطيرة وضخمة وعلى رأسها تحديات ثورة الإتصال والمعلومات ، وثورة التقنيات البيولوجية ، فضلا" عن التحديات العلمية والتقنية الجديدة لمجتمع ما بعد الصناعة .

ومن أبرز الإنعكاسات السلبية لهذه التحديات العالمية القلق والإضطرابات ، وتزايد مظاهر العنف والعدوان وإضطراب القيم الإنسانية الكبرى ، ولا سيما قيم الحق والمساواة والعدالة ، والمشكلات السكانية والبيئة وظهور الأوبئة والأمراض الجديدة .

أما التحديات الناجمة عن" التخلف" العربي فتتمثل في التبعية الإقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية ، وتخلف الإبداع وضعف إرادة التغيير ، وإرادة التحدي وضعف الروح التنظيمية وضعف النظرة المستقبلية.

إن هذه التحديات العالمية التي يفرضها الواقع القائم وتفرضها آفاق المستقبل المنشود تملي على نظام التعليم  المستقبلي في البلاد العربية أن يجدد بنيتها وأهدافها وطرائقها تجديدا" يستجيب لتلك التحديات .

ومن القيم الأساسية التي يجب الإهتمام بها لمواجهة تحديات العالم ، تعزيز دور وحدة المجتمع العربي الذي تغلب عليه النزعة الفردية ، وبث روح التعاون والتضامن والعمل الجماعي المشترك لدى التلامذة في المدارس والطلاب في الجامعات بشتى الوسائل والإهتمام بالمشروعات المشتركة . ولا بد للمجتمع العربي أن يكون له دور في بناء المستقبل العالمي إذا أراد اللحاق بركب العصر .

إن المجتمع العربي لا يستطيع أن يبقى واقفا" والزمن يمر من أمامه دون أن يفعل شيئا" ، بل عليه أن يسهم في صنع المستقبل ويمسك بزمامه من خلال بناء المستقبل العربي بوجه خاص ، وذلك من خلال الحوار العربي العربي ، والتواصل مع سائر شعوب العالم ، وأن يؤمن بقدرته على الإسهام في بناء كيانه الجديد ، والمساهمة في بناء كيان العالم الجديد من خلال ما يملكه من طاقات مادية وبشرية وثروة أخلاقية وثقافية ومالية .

إن المعارف العلمية والتقنية قوة إستراتيجية فعالة في الدرجة الأولى ، ولا يمكن لأية أمة أن تصبح قوة إقتصادية وعسكرية ، إلا بالإعتماد أولا" على العلم ، وبخاصة أن المعركة التي نخوضها في الوقت الحاضر ليست مواجهة عسكرية فقط ، بل علمية وتقنية ، ولا ريب أن المعركة العلمية والتقنية لا تقل أهمية عن المعركة على الجبهات العسكرية . ولكي نعمل على الإفادة من العلم بشكل عام ، يجب أن نضع له مرتكزات فلسفية ، وأهداف ومبادئ وقيما" علمية وتربوية جديدة ، سليمة وصحيحة ، بالإضافة الى التركيز على القيم الإجتماعية والسياسية الجديدة في المجتمع .

لقد سعيت في هذا المقال  " دور العلم في التنمية الوطنية الشاملة " الى الموضوعية وذلك للمساهمة في تطور التعليم في البلدان العربية إنطلاقا" من توجهات المؤتمرات ، وبالإعتماد على بعض الإستنتاجات التي تؤكد أن  الواقع التربوي والتعليمي في المنطقة العربية ،  شكل مرحلة إنتقالية هامة في تاريخ التعليم ، حيث أسهم نسبيا" في الإنتقال من الإرتجال والتقليد والفوضى في التعليم الى الضبط والتنظيم وبكلام آخر ، في التحول عن الكتاتيب الى المدارس والجامعات بما يتناسب مع المفهوم الحديث والمتطور ، وبعض المدارس والجامعات أدخلت المفهوم المتقدم من ناحية المناهج والإدارة والنظام الداخلي والهيئة التعليمية . كما كان لهذه المؤسسات التعليمية الأثر في توجيه الشعوب العربية الى مناهل النهضة الفكرية فلقنتهم علوما" ولغاتا" ، وأطلعتهم على آفاق الحياة ، فنهضت البلاد العربية نهضة علمية رافقتها نهضة إجتماعية ، وإتجهت العقول الى الإبداع بعدما إنطوت على تقصيرها قرونا" .

وقد شددت المؤتمرات التربوية -- التعليمية العربية على ذلك بتركيزها على أهمية التخطيط لأنه هو التنبؤ بسير المستقبل في التعليم والسيطرة عليه من أجل الوصول الى تنمية تربوية -- تعليمية متوازنة ، والى تحقيق الإستخدام الأمثل للموارد البشرية والمادية المتاحة ، والى الربط بين التنمية التربوية والتعليمية والتنمية الإقتصادية والإجتماعية . وأخيرا" لا بد من القول ، أن العلم يخدم معركة الحياة ، ويغرس في الجيل الجديد حب الوطن ، ويعزز دوره في تنمية المجتمع.