روح الإنسانوية (الكاذبة) وأهدافها! قراءة في كتاب (دكتاتورية المستنيرين) للكاتبة الروسية (أولغا تيشيتفيريكوفا)

د. علي ياسين

- الإنسان صورة قابلة للكشف عن (صورة الله) في أعماقها، وإن مساعي (المستنيرين) تريد أن تمسخ هذه الصورة، لتركّب صورة أخرى على هيأة (الوحش) أو (الشيطان)، الذي تقع على كل المثقفين والمتعلمين والمؤسسات الدينية والثقافية مسؤولية مقاومة هذه المساعي، لتستمر الحياة كما أراد لها الله جلّت قدرته

من المعروف أن قيم الأنوار وفلسفاتها الجديدة تعودان إلى حقبة زمانية حداثية مقترنة بالعصور الجديدة التي عرفت فيها أوربا سيادة العقلانية والحرية والذاتية مما يجعل الاستنارة غاية ترتبط بخدمة الانسان وتنويره وتخليصه من سلطة الأوهام والخرافات، وهذا ما يتعارض مع الدكتاتورية بوصفها نزعة تسلطية تعود إلى القرون الوسطى وتهدف إلى تكبيل الانسان روحا وعقلا ووجدانا، وهو ما تجعل منه صاحبة الكتاب (أولغا تيشيتفيريكوفا) عنوانا لكتابها الذي تقرن فيه بين نقيضين لا يلتقيان وبين نزعتين لا تجتمعان، وكما ترجمه الكاتب والمترجم الأردني (باسم الزعبي).

ولكن هذا اللبس المقصود في صياغة العنوان سرعان ما يزول إذا ما توغل القارئ الفطن بعيدا في أهداف الكاتبة ومراميها التي جعلت من المقصودين بزعامة نزعة التنوير في كتابها هذا بمثابة المتحكمين في إرادة البشر والمتسلطين على رقاب الناس بحجة تنويرهم وإخراجهم من الظلمات التي يرزحون تحت نيرها وعذابها سنين طويلة.

وتستعرض الكاتبة في كتابها المشتمل على أكثر من (300 صفحة) من القطع الطويل، التاريخ الطويل لتطوّر فكرة الهيمنة والإخضاع عبر التاريخ من خلال حديث مطوّل عن جماعات (علنية وسرية) رفعت شعار الاستنارة وحملت راية تحرير الإنسان وسبيل (الإنسانويّة) تحت مسميات زائفة ورغبات كاذبة تعلي من شأن الإنسان وإيصاله إلى درجة التأليه والربوبية بهدف تحطيم فكرة (الإله الخالق) وتهديم نسق الأديان وتخريب أفكار معتنقيها بغض النظر عن طبيعة هذه الأديان سماوية (إبراهيمية) كانت أم ليست سماوية .

وقد حاولت هذه الجماعات - مؤخرا- أن تتوسل بالتطورات التكنولوجية الهائلة وبالتقدم العلمي في علوم البايولوجيا والهندسة الوراثية من أجل التحكم بالإنسان وتحويله إلى مجرد (واجهة زائفة) لآلة تستجيب لتنفيذ رغبات هؤلاء المتحكمين بالعالم والساعين إلى تغيير ملامحه عن طريق مسخ الإنسان وتشويهه خلافا لما اقتضته فطرة الله التي تريد له أن يكون خليفة في الأرض يأمر بالعدل والإحسان وينفر من نوازع الشر والتخريب ويركن إلى خالقه عندما تنزل الملمات والشدائد ساحة أحزانه واوجاعه.

وتقوم الإنسانوية (العابرة) كما يترجم مترجم الدراسة هذا المصطلح في هذا الكتاب الجدير بالقراءة والتفحص الجاد على تحويل التكنلوجيات الحديثة المتطورة دوما إلى قوة قادرة على التحكم في مستقبل الإنسان من خلال التفوق على ذكائه العقلي أولا، ومن خلال تحول جسده ومخه إلى سطح (بيني) يجمع بين ما هو إنساني وما هو آلي من خلال المزج بين قدرات الانسان وكفاءته العقلية والكومبيوتر وقدراته وكفاءته البرمجية، ومع الأيام سيتحول الإنسان إلى ما يشبه العجين من الطين الاصطناعي القابل للتشكل على وفق الرغبات والأفكار والتوجهات المتحكمة في هذا التشكل.

وإن أصحاب هذه المشاريع من (دكتاتوريي الاستنارة) -كما تذهب المؤلفة- قد وجدوا في الأديان عقبة كأداء لتنفيذ مشاريعهم الخطرة ولذلك أرادوا أن يستبدلوا دينا بدين وأفكارا بأفكار، فالأديان بما اشتملت عليه من قيم أخلاقية وأعراف وتعاليم تمتلك القدرة على التكيف مع حركة التاريخ، وقادرة على استقطاب قلوب أفرادها ومريديها وتوجيه ضمائرهم وأفكارهم بشكل قوي.

ولما كانت المؤلفة مؤرخة بالأصل وباحثة في علم الأديان المقارنة لذلك فقد انصب اهتمامها في كتابها المشتمل على ستة عشر فصلا على هذين الجانبين فاستعرضت من الناحية التاريخية استغلال المستنيرين السلم العلمي الذي ركبوه لتمرير هذه المشاريع الخطرة، فتثبت بالدليل القاطع أن أضخم النظريات في العصر الحديث جرى توظيفها لمقاصد أخرى بعيدة عن جوهر هذه النظريات، كنظرية فرويد (النفسانية) التي استخدمت استخداما أيديولوجيا بهدف تحقيق غايات محددة ومقصودة تتناغم وأهداف المستنيرين في فرض رؤى دكتاتورية وأعراف وتقاليد جديدة تحط من دور الدين في ضبط الحياة الأخلاقية للبشر وتنظيمها تنظيما يتماشى والقانون العام الذي اختطته هذه الأديان.

وترى المؤلفة: أنه من خلال تمرير نظرية فرويد العلمية في أصلها والقائمة على (تحليل الدوافع الجنسية عند الإنسان) ضمن مجالات أوسع تعد الحاجة الجنسية مجرد رغبة تسعى للتحقق دون ضوابط وأصول معينة مقدمة إلى أمور كبيرة وخطرة يسعى لتنفيذها من تسميهم المستنيرون، وتكمن هذه الخطورة في الدعوة الى الحرية الجنسية أولا، وتبعتها دعوات أخطر تمثلت بالدعوة إلى المثلية التي تضمر أمرا أشد خطورة أولته الأديان والتنظيمات الاجتماعية التقليدية فائق عنايتها وهو (نظام الأسرة) الذي يسعى المستنيرون إلى تحطيمه وتخريبه راكبين موجة (الفرويدية) بعد تغيير مسار نظريته بالاتجاه الذي يلائم توجهاتهم الشيطانية.

وتنتهي الكاتبة إلى ضرورة تضافر الجهود البشرية للوقوف بالضد من هذه السياسة الناعمة والخفية التي تتبعها المؤسسات المنتمية إلى توجهات المستنيرين زيفا ولديكتاتوريتهم الساعية للهيمنة على كل العالم ومصادرة رؤاهم وعاداتهم وثقافتهم، لأن أيدي هذه المؤسسات بدأت تمتد إلى كل مناحي الحياة في الثقافة والسينما والتجارة والإعلام والسياحة، وترى المؤلفة أن حائط الصد الأول الذي سيقف بوجه هذه المشاريع الخطيرة يجب أن يكون بالعودة إلى فطرة الله والخلق، وبالتمسك بأهداب الأديان وتقاليدها التي تستطيع المقاومة والجلد والثبات تحت ضربات تلك المؤسسات العابثة، فالإنسان أكثر من كونه كائنا بايولوجيا أو كتلة من البرمجيات والمشاعر القابلة للمسخ والتغيير.

بل هو -أي الإنسان- عبارة عن صورة قابلة للكشف عن (صورة الله) في أعماقها، وإن مساعي (المستنيرين) تريد أن تمسخ هذه الصورة لتركب صورة أخرى على هيأة (الوحش) أو (الشيطان) الذي تريد له مؤسسات الاستنارة الكاذبة ومريدوها أن يكون سيد هذا الوجود والمتصرف الوحيد بشؤون الطبيعة الام، وهي نوازع تخريبية -لا شك- وتقع على كل المثقفين والمتعلمين والمؤسسات الدينية والثقافية مسؤولية مقاومة هذه المساعي لتستمر الحياة على هذا الكوكب كما أراد لها الله (جلّت قدرته).