الامام علي (عليه السلام) في الفكر المسيحي

جورج جرداق ومؤلفاته العلويَّة (الحلقة الاولى )

الباحث: صباح محسن كاظم

كتب عشرات من المؤرخين والأدباء والشعراء والكتّاب من المسيحيين عن الإمام علي (عليه السلام ) منهم شبلي شميل ، ميخائيل نعيمة ، جبران خليل جبران ، جوزيف الهاشم ، جورج شكور، أنطوان بارا صاحب كتاب الحسين في الفكر المسيحي.  وفي هذا المبحث عرض للنتاج الفكري للأديب والمؤرخ جورج جرادق ، فقد درس بمؤلفاته المتعددة: (علي وعصره – الإمام علي وحقوق الإنسان – الإمام علي وسقراط – الإمام علي والثورة الفرنسية – الإمام علي والقومية العربية).. وتعمق بشروحاته بتلك المؤلفات عن شخصية أمير المؤمنين بكافة أبعادها الإنسانية ، وتأثيرها على المستوى العربيّ والعالميّ .

وقد أبدع الكتّاب من المسيحيين في تناولهم هذه الشخصية العظيمة ، فلم يكن ما قاله هؤلاء الكتاب وغيرهم جديداً في هذا الباب، بل هو امتداد لتراث صحيح منقول عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتب المسلمين باختلاف مذاهبهم، وكلهم ينقلون ما صحّ في فضل الإمام علي ( عليه السلام)  من أحاديث النبي، وهي كثيرة، ونأخذ على سبيل المثال لا الحصر حديث الثقلين، وهو مِنَ الأحاديث المتواترة بين الفريقين، ويدخل ضمن مساحة بحثنا في مفهوم العصمة الذي يتفرّع عن حجيّة السنّة النبوية، وأيضًا تدخل ضمن بحث حجيّة الظهور، ومن الأدلَّة عليها هو الاحتجاج بالأحاديث الناطقة بلزوم التمسُّك بالكتاب والسُّنَّة والعمل بهما، بمعنى أنَّ العمل بظاهر الآية أو الحديث مصداق عرفًا لما هو مأمور به في تلك الأدلَّة.

عن أبي سعيد قال: "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنِّي تارك فيكم الثّقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يَرِدا على الحوض"، والحاكم النيسابوري عن زيد بن علي قال: "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنِّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي وأنَّهما لن يتفرقا حتَّى يَرِدا عليَّ الحوض"، وعلَّق عليه: هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

 لقد نهل معظم المؤرخين والكتّاب والأدباء المعاصرين من هذا السفر السرّ الخالد المتجدد حيث يقول المؤلف بمقدمة هذه الخماسية: "لقد جهدنا أن يحفل هذا الكتاب بنظرات جديدة تتعلّق بعصر علي، وبنظرات موسّعة جديدة كذلك تتناول عبقريته، ثم بالتفاتة جامعة تشمل ما انطوى عليه تاريخ الإنسانية من معنى الإنسان بوصفه كائنًا اجتماعيًا، وكيف تدرّج هذا المعنى من طورٍ إلى طور وفقًا لسير التاريخ العامّ، لنوضح بعد ذلك ما أمكننا أن نوضح من معنى الإنسان عند علي بن أبي طالب بالمقابلة بينه وبين مفكري العصور من بعض الجوانب، وبين مبادئه العامة ومبادئ الثورة الكبرى المعروفة بالثورة الفرنسية بوصفها تجمع ما في الإنسانيات القديمة والمتوسطة من معنى الإنسان، ثم بوصفها خاتمة عهود في تاريخ البشر وفاتحة عهد جديد!..".

 إن هذه السياحة في أبهى وأجمل وأروع وأنصع صفحات التاريخ، التي قلبها جورج جرداق وقد استلهم منها الدروس بمؤلفاته بإقرار حقوق الإنسان ومبادئ الثورات البشرية الكبرى بالتاريخ كالثورة الفرنسية وكل المنادين بالحرية.

كتب الأديب ميخائيل نعيمة: "ويقيني أن مؤلّف هذا السفر النفيس، بما في قلمه من لباقة، وما في قلبه من حرارة، وما في وجدانه من إنصاف ؛ قد نجح إلى حدٍ بعيد في رسم صورة لابن أبي طالب لا تستطيع أمامها إلاّ أن تشهد بأنها الصورة الحيّة لأعظم رجل عربي بعد النبي".

 

لقد أجمل بعبارات الجمال الأديب ميخائيل نعيمة.. بتلك المقدمة.. حقًا إن عليًا هو الرجل الأعظم بعد الرسول بحمل تنوء عنه الجبال في أمة أرادت بعد رحيل نبيها تعود لصحرائها.. وجاهليتها.. وسلوكها السابق.. لكن أمير المؤمنين عدّل الاعوجاج والانكسار والعودة للقهرقري بصبره، وجلده، وتحمّله، وهو يعرف بيقينه التام أنه رجل المرحلة بعد المصطفى، لكن آثر على نفسه صبرًا لدعم من سبقه.

هذا المبحث وهو اجتزاء من كل كتاب بعض الرؤى والأفكار والتحليل والاستنباط، فالأجزاء الخمسة التي جمعت بـ( 818 ) صفحة وكل مبحث بالرسالة بصفحات معدودة، لذلك الاختزال هو المطلوب لعدة وريقات من هذا السِفر التاريخيّ.. التحليليّ.. والوصفيّ.. الأقرب لروح عليّ هذه الشخصيّة الإلهيّة بسحر بيانه.

 يؤكد جورج جرداق ببابه الأول: الضمير العملاق، عن شبلي شميل.. "الإمام عليّ بن أبي طالب، عظيم العظماء، نسخةٌ مفردةٌ لم يرّ لها الشرق ولا الغرب صورةً طبق الأصل لا قديمًا ولا حديثًا. علي هامة التَّاريخ ما هو من الآدميين إلاّ بمقدار ما يسمّون بمقياس الضمير والوجدان. هّلا أعرتَ دنياك أذنًا صاغيةً فتخبرك بما كان من أمر عظيمٍ؟ ما أعطت الدنيا إن تُحدّثك عن مثله إلاّ قليلًا بين جيلٍ وجيل ! هلاّ أعرتَ دنياك أذنًا وقلبًا وعقلًا فتُلتقي إلى كيانك جميعًا بخبرِ عبقريِّ حملت منه في وجدانها قصّة الضمير العملاق يعلو ويعلو حتى لَتهون عليه الدنيا وتهون الحياة".

يُعبر جورج جرداق عن الإشراقات الروحيّة لدى أمير المؤمنين كأهم فرسان الشرق طوال تاريخه لما حباه الله من صفات لم تتوفر لدى أي حاكم فيه.. حيث يقول: "هل سألت تاريخ هذا الشرق عن صلابة العقيدة لا تجرحها الزلازل ولا يشوبها من البراكين وهن؟ وأي زلازل أشد على العقيدة من ائتمار أقله إجماع الخصوم، وهم كثر أقوياء، على التخطئة والتكفير وما إليهما من ذنوب؟ وأي بركان أحرق للعقيدة من التهديد بالموت المحتوم، ثم من الموت نفسه ؟ ثم هل سألت كيف يكون الصراع من أجل العقيدة لا يوارب ولا يساوم ولا ينطوي على نفع ولا يدور في نطاق من الإثرة والاستعلاء، الله إلا إذا كان نجاح العقيدة هو النفع والاستعلاء والإثرة؟".

إن أسوء مظاهر وجود البشرية هو التكفير.. وعدم القبول بالآخر.. والاستعداء.. فيما تسامى مولى الموحدين على تلك الدناءات التي ظهرت بالتاريخ.. وتظهر وتبرز بين الفينة والأخرى.. فالإمام يحترم وجود الآخر مهما اختلف معه.. لغة الحوار هي الأصوب والطريق لحل كل المشكلات وبكل الجوانب أبرز ما ميز الحكم العلوي رغم وجود الخصوم الذين لم يمهلوا الإمام لتطبيق المثل والمبادئ التي يؤمن بها. الأولياء من المخلصين لله وللإنسان عبق ذكراهم يمتد على آفاق التاريخ رسالتهم بحقوق الإنسان هي خارطة الطريق الآمن لجميع البشرية.

 يؤكد المؤرخ د. أنطوان بارا : ان الرسل والأنبياء والأوصياء والمصطفون والشهداء، أعطاهم الله مَلكَة نورانيَّة تساعدهم على استجلاء الغيب المغيَّب واستشفاف المستقبل".

كما فصل ذلك بارا بمؤلفاته عن آل البيت الحسين بالفكر المسيحي وغيرها من المؤلفات. دراسة جورج جرداق استقصاء لمسيرة أمير المؤمنين من الولادة للشهادة بصورة أدبية مفعمة بالإعجاب والدنو وتقمص تلك السيرة برؤية معاصرة أي بمعنى مدونة حديثة بالتعاطي التاريخي لا كالكتب السالفة بالسيرة، لقد استلهم فيها الروّح العلويّة السامقة الشاهقة بكل معاني الخيّر والبرّ، في مجتمعٍ وزمانٍ غلبت فيه الروح العصبيّة والقبليّة، لذلك اعتبر هذا الرجل الخالد خارج سياقات زمنه بكل الأنساق الثقافيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة بعلو منزلته الروحيّة، وفهمه العميق للدين الذي يؤطر الأخلاق بالمحبة، ودوره بصناعة الحياة.

من هنا نستنتج الفعل الكبير للقراءة المقارنة العميقة والتحليل الصائب الذي قدمه "جورج جرداق" بين علي ومؤسس الفلسفة سقراط.. وكل من بنوا المجد التاريخيّ بالبشرية من الثائرين ضد الباطل واستعباد الإنسان.

مجلة الروضة الحسينية