المرجعية ووحدة الصف الوطني

م. دلال الطيراوي

من المعلوم أن المرجعية العلمية الدينية في النجف الأشرف هي أعلى سلطة دينية للمسلمين الإمامية، والمرجع الديني في المذهب الامامي هو نائب الإمام المعصوم في زمن غيبته الكبرى، حيث روي عن الامام المعصوم (عليه السلام) قوله: (أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة احاديثنا فانهم حجة عليكم وانا حجة الله عليكم).

ويشدد فقهاء الشيعة على شخصية المرجع (الفقيه المجتهد) ويحرصون كل الحرص على تأهيله العلمي للوصول الى هذه المرحلة، وعلى أن يكون قويا صلبا في اتخاذ قراره عند الافتاء، لأن العدول عن الفتوى لاحقا تعطي مؤيديه ومريديه ومقلديه حرية ترك تقليده والانتقال الى فقيه آخر بعدما أظهره من تردد أو تراجع في عدوله المذكور.

وامتلكت هذه المرجعية المباركة عبر الزمن الطويل من مقومات القوة والتأييد الشعبي ما يجعلها جهة أو مؤسسة لا يمكن الاستهانة بها في تقرير مصير المسلمين وفي رسم مستقبل البلدان التي تقع في إطار تأثير هذه المرجعية المباركة.

ولذلك ينظر المسلمين الشيعة الى أعلى المراجع ( وهو المرجع المختار باتفاق الفقهاء جميعا) نظرة إجلال واحترام وتقدير لا يدانيه فيها أحد، وهذا نتيجة لأسباب دينية وتربوية وعقائدية تربى عليها المجتمع الشيعي المعتز بأئمته ورموزه ومن يمثل هؤلاء الأئمة والرموز، وبدون الارتباط بمرجع من المراجع المتفق عليهم ستكون حياة الفرد بلا قيمة دينية أو اجتماعية في ظل الأعراف والتقاليد التي تربى عليها هؤلاء المسلمين.

وهناك مجموعة من الشروط الواجب توفرها في الفقيه الطامح إلى منصب المرجع الأعلى منها اتقانه للعربية وعلومها وإلمامه بالعلوم الشرعية ومعرفته بأسرار القرآن، إضافة للاجتهاد والعدالة التي تمنحه عدم مخالفته للتكاليف الشرعيّة.

ومنذ تاريخ تأسيس هذه المرجعية قبل قرون ومع تاريخ تبلورها عام 328هجري وحتى يومنا هذا ظلت الشواهد الملموسة تؤيد مواقف المرجعية المباركة بكل ما يحقق وحدة الصف ووحدة الكلمة ووحدة البلاد واجتماع الأمة على كلمة سواء.

وفي العصر الحديث لم تقتصر مواقف المرجعية الدينية على الكلام أو التنديد أو التأييد في المواقف الحاسمة وانما تعدت ذلك الى الافعال، وهناك الكثير من الشواهد التاريخية المؤكدة لذلك، فعندما دخل المحتلون الانكليز أرض العراق عام 1914م وبعد تقهقر القوات العثمانية كانت الرموز الدينية الممثلة لمرجعية النجف ومن مجتهديها الافاضل في الصفوف الأولى لمواجهة المحتلين، حتى أن منهم من روى أرض العراق بدمه الطاهر كالشهيد الثائر محمد سعيد الحبوبي الذي كان يقود مقدمة الصفوف في معارك الرميلة في البصرة ضد الغزاة وقد جرح جرحا بالغا وأخلي إلى الناصرية ووافته المنية متأثرا بجراحه وقد أجري له تشييع مهيب أسهم في إشعال الحماس في صدور الناس ضد الغزاة الطامعين بنهب الخيرات من بلاد المسلمين.

ولم يقتصر دور المرجعية على مقاومة الاستعمار داخل الاراضي العراقية فقط، إذ أن هناك مواقف مشرفة مسجلة للمرجعية تندد بغزو ليبيا سنة 1911م، وضد احتلال سوريا ولبنان ومصر وغيرها من الاقطار العربية والاسلامية الاخرى، كما كانت هناك مواقف مشرفة بتأييد ثورة  (1920) أو الثورة الكبرى في العراق وكانت قيادة هذه الثورة قد أنيطت مسؤوليتها بأحد المراجع العظام آنذاك وهو الإمام الشيرازي الذي قضى مسموما بكربلاء عن طريق أذناب الاستعمار الانكليزي الذين تمكنوا منه غدرا وغيلة.

وقد أسهمت المرجعية مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة في مسألة جمع الأمة على كلمة سواء من خلال دعمها للنظام البرلماني ومن خلال تأييدها للانتخابات والدعوة الشديدة لجعلها نزيهة توصل أصحاب الاستحقاق إلى مراكز القرار، ولم تتوانَ عن تأييدها للانتفاضات الشعبية التي قامت بها المؤسسات الرافضة لوجود الاستعمار الانكليزي وتنديدها بممارساته التعسفية ضد جموع الشعب الرافض لهذا الوجود، كما لم تتناسَ دورها في رفض العدوان على الدول العربية والاسلامية الاخرى كما حدث ايام حرب عام 1048م في فلسطين والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، وحرب 1967م بين العرب واسرائيل.

ومع مجيء حكومة البعث (الطائفية) مع العام 1963م لم تتوقف المرجعية الدينية في النجف عن اعلان عدم الرضا لبرامج هذه الحكومة، ولا سيما في ممارساتها المتعسفة في تصفية الآلاف من العراقيين بحجة انتمائهم إلى أحزاب وجهات أخرى تعارض طريقة حزب البعث في إدارة الدولة بطريقة همجية لا تعبر عن تحضر او تمدن ، وكانت أساليب المرجعية دالة على التحضر والتمدن والوعي، من خلال اللجوء للتعبير عن الرأي دون الحاجة للتلويح بالعنف مع أن المرجعية الدينية معبرة عن رأي الاكثرية التي غبن حقها في حكومة البعث من الشعب العراقي أجمع.

ولم تكن المرجعية الدينية لتعبر عن رأي الشيعة فقط وهم الأكثرية في العراق، بل كانت تنظر بالعين الأبوية لكل الطوائف في العراق بدليل تأييدها للحق الكردي في استعادة الحقوق المسلوبة داخل الوطن الواحد، وكانت كثير من الوفود الكردية تصل للنجف للتعبير عن رأيها في دعم مواقف المرجعية المشرفة والمسؤولة.

ولعل خير ما نختم به هذه المواقف هو نداء الدفاع الكفائي الذي أطلقته المرجعية إبان دخول عصابات الاجرام البعثي- الداعشي الى مدن العراق وإفسادها في الأرض، وكان خير دليل على موقف المرجعية الوطني، حيث ضحت هذه المرجعية بفلذات أكبادها من خيرة الشباب الذين لبوا النداء المسؤول لإنقاذ العراق بكل طوائفه وأديانه ومكوناته من الرجس الداعشي ومن اجل اعادة وجه العراق المشرق والحضاري.