صياغة الهوية وإشكالات التأقلم للمسلمين في أوربا.. ألمانيا مثالاً

ناصر الخزاعي

تعد ألمانيا من أكثر دول أوربا الغربية جذباً للأجانب بسبب طبيعة قانونها المدني المتسامح وبسبب حاجتها الماسة للأيدي العاملة من جهة وكبر مساحتها الجغرافية من جانب آخر، ولذلك فإن عدد المسلمين في ألمانيا يتجاوز الأربعة ملايين، وهو رقم كبير قياسا بأعداد المسلمين في الدول الأوربية الأخرى.

وربما كان هذا العدد الضخم مدعاة لرفع شعار العداء من قبل المتشددين الألمان أو ما يعرف بالنازيون الجدد، الذين يجدون السبيل ميسرا للربط بين الوجود الاسلامي في المانيا وبين ربط هذا الوجود بالأصولية والتطرف السياسي، ولاسيما أن في ألمانيا  بعض الحركات والمؤسسات والمنظمات القليلة، التي تزعم لنفسها أحقية الحديث نيابة عن المسلمين أجمع!

وقد دخلت أول موجة مسلمين من تركيا إلى هذا البلد قبل أكثر من ثلاثمئة عام وكانوا أقلية واضحة أغلبهم من أصول تركية وقبرصية، غير أن الموجة الثانية لهجرة المسلمين كانت أشد وضوحاً فمع خمسينيات القرن الماضي وبعد خروج ألمانيا منهزمة في الحرب الكونية الثانية اشتدت الحاجة إلى الأيدي العاملة بسبب هلاك أكثر من مليوني شاب ألماني، فكانت الهجرة من تركيا وإيران والمغرب وتونس والجزائر وبلاد الشام واضحة جدا وشبيهة بهجرة المسلمين القسرية بعد موجة الحروب والاضطربات التي حدثت أواخر الألفية الثانية، ومع العقد الأول من بداية الألفية الثالثة.

وغلب التمركز السكاني لمسلموا ألمانيا من خلال اختيارهم العيش في الأماكن الحضرية وتفضيلها على الأرياف والقرى وذلك بسبب توفر فرص العمل في المدن والموانئ الألمانية الكبيرة أو بسبب وجود أقرباء سابقين اختاروا العيش في هذه المدن التي من أهمها (كروزبرج) و(برلين) و(فرانكفورت) و(ديوسبرج) وغيرها من المدن الألمانية الكبرى.

وبسبب اعتزاز مسلمي ألمانيا بهويتهم وثقافتهم الاسلامية الخاصة فإن الكثير منهم يواجه الصعوبات الجمّة في القدرة على التأقلم مع الثقافة الألمانية العلمانية الطابع، خصوصاً وأن مدارس الأطفال في هذا البلد وطريقة تنشئتهم تتم تحت رعاية الكنيسة المسيحية الألمانية غير المتوافقة مع هوى المسلمين، وهو ما يضطر الأسر المسلمة الى البحث عن المدارس الاسلامية في أماكن قد تكون بعيدة عن محل إقامة هذه الأسر.

ولعل هذا الأمر أدى إلى عزوف بعض الاسر عن تكملة المشوار التعليمي لأولادها مما أوقع البعض منهم في البطالة في بلد يحتفل بالتأهيل العلمي وبالخبرة الميدانية في مجال الأعمال التقنية والطبية والتعليمية، فضلا عن وجود عوامل دينية ساهمت في تفشي ظاهرة البطالة بين صفوف الوافدين المسلمين، فالذكور من هؤلاء الوافدين يرفضون بسبب عقيدتهم الدينية العمل في محلات بيع الخمور مثلا، أو في محلات الجزارة المتعاطية مع اللحوم المحرمة، والإناث بسبب اعتزازهن بارتداء الحجاب يفقدن الكثير من فرص العمل بسبب هذا اللباس غير المتوائم مع طبيعة المجتمع الألماني المنفتح أشد الانفتاح.

ولكن هذا لا يمنع من مشاركة المسلمين في ألمانيا بدفع عجلة الاقتصاد الألماني من خلال التجارة الناجحة التي يتقنها ما يقارب الستين ألف رجل أعمال من الجالية التركية في عموم ألمانيا، حيث يحرك هؤلاء أغلب أسواق الجملة ومعظم محلات المواد الغذائية والمطاعم في المدن الألمانية الكبرى.

وبما يخص النشاط الديني لمسلمي ألمانيا فإن الموجة الأولى من المهاجرين لم تكن تمتلك أماكن خاصة بها أو مساجد لإقامة الشعائر والاحتفالات والمناسبات الدينية السنوية حيث كانوا يحيون شعائرهم وطقوسهم في الفنادق أو في البيوت أو في المصانع التي يعملون بها، وبمرور الوقت ازدادت الحاجة الى بناء أماكن عبادة يتوجه إليها المسلمون في صلاتهم العامة وفي مناسباتهم الدينية الدورية، فبنيت المساجد من خلال جهود المهاجرين الأوائل وعن طريق الأموال الطائلة  التي أنفقوها بغية نقل الثقافة الأصيلة إلى الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين، أي (الأبناء والأحفاد).

ويوجد في ألمانيا وحدها اكثر من مئة مسجد مرخص من الحكومة الفدرالية الالمانية، وتوفر هذه المساجد خدمة جليلة لمبدأ الحفاظ على الهوية الاسلامية ومن أجل اعادة تشكيلها وصياغتها عند الأجيال الثانية والثالثة من مجاميع المهاجرون المسلمون، ولعل أغلب المساجد في ألمانيا هي سنية التوجه بسبب الأكثرية التركية في هذه الجالية وهي أكثرية تتبع المذهب الشافعي، ولا تخلو المدن الألمانية من مساجد شيعية شيدها المهاجرون الإيرانيين على الطريقة الفارسية القديمة، وهناك مساجد أخرى أنشاها المهاجرون العراقيون واللبنانيون والهنود والباكستانيون في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.

وقد تمكن المهاجرون من المسلمين لأتراك الأوائل بجهودهم الذاتية من توفير بنية تحتية متنوعة ناطقة بالتركي، فأصدروا الجرائد والمجلات وأسسوا الفضائيات الإعلامية من أجل إجبار السلطات الألمانية على سماع صوت هذه المجموعات الكبيرة من مسلمي ألمانيا وإدخالهم في أتون الحياة السياسية من أجل التدخل في القرار السياسي عبر المشاركة الانتخابية التي لو استغلها المسلمين في أوربا لاستطاعوا تحقيق المزيد من المكتسبات التي تدعم تأقلمهم في المجتمعات وتحافظ بالوقت نفسه على هويتهم الاسلامية المهددة بالزوال والتلاشي.

وربما تكون منظمة (الاتحاد الاسلامي التركي) هي أكبر الجمعيات الاسلامية وأكثرها تنظيما، وهناك حركة (النوركولك) وهي حركة صوفية ذات طابع اسلامي تدعو الى الاصلاح من خلال المزج بين الاسلام والحداثة، وهناك أيضا جمعية علوية كبيرة أغلب أفرادها من أكراد تركيا والعراق وسوريا، وهناك مؤسسات شيعية بارزة في المانيا أيضا تتوافق مطالبها العامة مع مطالب المنظمات الاسلامية الأخرى في ضرورة الإقرار بالاسلام كهيئة شرعية عامة، والإذن ببناء المساجد ودور العبادة أسوة بالأديان الأخرى، وإدخال مفردات الدين الاسلامي وعلومه الفقهية كمواد دراسية في المدارس الألمانية التي تدرس الطلبة المسلمين.

ولكون الاسلام هو الدين الثاني بعد المسيحية في ألمانيا فإنه ظل في هذا البلد العلماني موضع إشكالات عديدة، أولها أن الاسلام ليست له مرجعية مؤسسية واحدة تمثل جميع المسلمين يمكن التحاور معها نيابة عن الجالية الاسلامية المتواجدة في عموم ألمانيا، فضلا عن وجود بعض الأصوليون الرافضون لفكرة إجراء الحوار والمشجعون على استخدام العنف كوسيلة ضغط للحصول على المكاسب السياسية.

وعليه فإن ألمانيا البلد المعروف بتعدد ثقافاته وأعراقه وولاءاته التي لا تقود بالضرورة الى التضارب أو التناحر في ظل دولة شعارها الحرية والمساواة تحت طائلة القانون الانساني الصارم إزاء الجميع؛ بقدر ما تفسح المجال لصهر هذه الثقافات والأعراق في مجتمع يؤمن بالتعددية والاختلاف الذي تسبغ عليه الشرعية التي يجب أن تمتد (لو استغلت جيدا من قبل مسلموا ألمانيا) في ظل هذا القانون لخدمة الاسلام كدين سماوي، ولخدمة المهاجرين المسلمين الذين اتخذوا من ألمانيا مكاناً لعيش رغيد...