معيار النهج الاصلاحي

محمد عبد الجبار الشبوط

كثيرون يرفعون وينادون بشعار الاصلاح ومكافحة الفساد. فعل ذلك رئيس وزراء اسبق، ورجال دين يعملون بالسياسة، والمتظاهرون المحتجون، فضلاً بطبيعة الحال عن الدعوة الدائمة للمرجعية الدينية بضرورة الاصلاح.

وباستثناء الخطب السياسية لصلاة الجمعة، قبل جائحة كورونا، والمعبرة عن توجهات المرجع الديني الاعلى الامام السيد السيستاني، فان بقية الدعوات تفتقر الى أمرين في غاية الاهمية وهما: المؤشر المعياري، والمنهجية المجسّدة له، ولهذا انحصر جهدها بإجراءات فوقية اتضح ان معظمها غير دستوري، او اجراءات "اكشن" بلغة اهل السينما..

فأما المؤشر المعياري فهو جعل "الدولة الحضارية الحديثة" هدفاً اعلى للاصلاح. وليس هذا اختيارا عشوائيا ولا ارادويا ولا ايديولوجيا مسبقا ولا اعتباطيا؛ انما هو تشخيص منبثق من رؤية علمية عميقة للحراك الحضاري للشعوب والمجتمعات، وهو حراك متجه منذ الاف السنين صوب نموذج الدولة الحضارية الحديثة. وهو اتجاه آخذٌ بالتجسد اليوم بعدد لا يستهان به من الدول التي استطاعت ان تحقق درجات عالية من مستلزمات اسعاد الانسان وتحسين مستوى ونوعية حياته، بما في ذلك زيادة معدل العمر المتوقع للفرد، وتماسك الدولة، ونزاهة جهازها التنفيذي، وحفظ حقوق الانسان، وتحقيق التنمية المستدامة. وكل دعوة اصلاحية لا تضع نصب عينيها الدولة الحضارية الحديثة كهدف اعلى لا تعدو ان تكون فرقعة اعلامية بلا ارضية متينة ولا هدف مدروس.

واما المنهجية المجسدة للاصلاح ومحاربة الفساد فهي التربية طويلة الامد للمجتمع. وهذه التربية تتم من خلال المدرسة بشكل اساسي، دون التقليل من اهمية البيت بطبيعة الحال. ويدلنا الاستقراء الى ان كل المجتمعات التي حققت درجات عليا في بناء الدولة الحضارية الحديثة انما بدأت من المدرسة. وقد اكد افلاطون على ذلك، وهذا ما قامت به الثورة الفرنسية، والدول المعاصرة، من اليابان وسنغافورة الى السويد والدانمارك مرورا بغيرها من الدول التي يتجاوز عددها العشرين دولة حتى الان.

ان الدولة الحضارية تولد في المدرسة، كما ان خلق البيئة المضادة للفساد يبدأ من المدرسة.

اما دعوات الاصلاح ومكافحة الفساد التي تنشط عندنا على مستويات متعددة فانها تتجاهل الطريق المؤدي الى ذلك، فضلا عن غياب المؤشر المعياري. ولم اسمع من الذين نادوا بالاصلاح كلاما خاصة بالتربية والمدرسة.

 ولهذا السبب، وربما لاسباب اخرى، لم تنل المدرسة (ووزارة التربية) الاهتمام الكافي بالربط بمشروع الدولة الحضارية الحديثة. ويدرك الجميع اليوم ان مؤسسة المدرسة عندنا تمر باسوأ حالاتها، مما يجعلها عاجزة عن ان تكون طرفا فاعلا في الاصلاح السياسي ومكافحة الفساد، واخيرا في اقامة الدولة الحضارية الحديثة. ان الاصلاح السياسي الحقيقي ومكافحة الفساد الجادة مرتبطان عضويا بوجود نظام تربوي حضاري حديث، كررتُ الدعوة الى اقامته منذ سنوات لوضع المجتمع العراقي على الطريق الصحيح. ويتحقق هذا النظام التربوي من خلال عدة مفردات منها:

اولاً، اطلاق حملة وطنية واسعة النطاق لتشييد مباني مدرسية بمواصفات حضارية حديثة يتم تمويلها بطرق سبق ان تم اقتراحها.

ثانياً، منهج تربوي لكل المراحل الدراسية يرافق الطفل العراقي على مدى ١٢ عاما على الاقل، وربما اكثر اذا اضفنا اليها مرحلتي الروضة والجامعة.

ويركز هذا المنهج التربوي من بين امور اخرى على القيم الحافة بالمركب الحضاري، والفهم الحضاري للدين، والعلم والتكنولوجيا الحديثين.

ثالثاً، حملة وطنية شاملة لتهيئة المعلمين والمدرسين من الجنسين لتطبيق هذا المنهج التربوي.

رابعاً، تشكيل المجلس الدائم للتربية الذي يتولى التخطيط والاشراف على ذلك كله.