الحاجة والاحتياج.. دوامة الكرامة واللا كرامة

غانيا درغام

غريب والغربة ليست مذمة، وحيد والوحدة ليست إثم، أعمل.. نعم أعمل كي أقي نفسي من حاجة الزمن، من جوع الحياة، وظلام الظلم، أعمل وهذا شرفي الذي لا يغني عنه أموال الرأفة والتربص بطفولتي، أجوب الطرقات وتجوبني الأحلام، في كل يوم لي موعد مع رزق زهيد قدراً، وعظيم مقداراً، عظيم مقدار رزقي في نفسي، كيف لا يكون كذلك وهو عرق جبيني، وهو شرفي، لا تحزنوا عليّ، فأنا من أدعوا لكم بحسن الرزق، وحسن الرزق ليس بمقداره بل بحلاله، جبيني مرصع بالعزة، أتمنى أن يمنحكم الله كمثل جبيني.

الفرق بين المحتاج و المتسول

نرى الأطفال يجوبون الشوارع لاهثين خلف لقمة العيش، وتختلف الحاجة عند بعضهم عن بعض، فمنهم من دفعه والداه أو تشرُّده لهذا العمل، ومنهم من كان يحتاج بحق لكسب لقمة العيش بكرامة، وهم الذين لو تكرمت عليهم ببعض النقود لرموها رافضين المال دون عمل، ذاك العمل الذي يتمثل ببيع بعض المواد الخفيفة كالمسكة، المحارم، اليانصيب، وغيرها مما قد يحمل وزره في طريق البرد، وأزقة النار، فهم لا يعلمون إن كان الفصل صيف أم شتاء، الجو بارد أم حار، كل ما يعنيهم هو الخروج مع كل يوم جديد، لرزق جديد.

 

تتواجد هذه الشريحة من الأطفال في الأماكن العامة مثل الطرقات الرئيسية، الكافيتريات، والساحات الكبرى في المدينة، طفل في مكان عام دون والديه، يصارع الحياة من أجل بقاء كريم، فكم هي عظيمة هذه الطفولة الكريمة، يعتزون بأنفسهم وكأنهم يملكون ما لا يملكه كثير من الذين حولهم، فيرفضون الحسنة ببعض النقود، ويكتفوا لأنفسهم بكثير من العنفوان، على عكس بعضهم الذين يترجون من أجل التسول، بأكف مفتوحة للهواء، وإن ملكت الكثير، فهي فقدت الأكثر من عزة النفس والكرامة، حقاً نتساءل كيف سيتعلم أو يتذكر هذا الطفل المتسول كرامته عندما يصبح شاباً؟ وما تبعات هذا الأمر على جهده السلوكي والاجتماعي لاحقاً؟

آثار التسوّل على المجتمع

يعتبر التسوّل ظاهرة اجتماعية مرضية، لاسيما آثاره السلبية من انتشار السرقة، البطالة، العداوة، زعزعة كيان الأسرة، والمظهر السيئ على الواقع الذي يعيشه المجتمع، كما ننوه لعملية التسوّل المنظّم التي يقودها أفراد مخططين ومشرفين، مما يؤدي إلى اتساع ظاهرة التسول وتفاقمها، لاسيما في حالات الخطف، الجرائم، الاحتيال، وفنون الإقناع التي يمارسها كثير من هؤلاء المتسولين اليوم.

شريحة المتسولين صغار السن لا يدركون عواقب الأمور، وعدم إدراكهم قد يزجّهم في براثن التسول على أوسع نطاق، فيوقعهم في مواقف خاطئة، حيث يستغل ضعاف النفوس و ذوو القلوب المريضة الأطفال "اليتامى، الفقراء والمساكين" في أعمال سيئة  فيها تدمير لكيان الأطفال فتنتشر في المجتمع.

 

الآثار النفسية للتسول

اتجه علماء النفس إلى اعتبار ظاهرة انحراف الأحداث ظاهرة نفسية مرتبطة بالتسول، أما الآثار النفسية الناتجة من الاضطرابات النفسية، الخوف، وانعدام الثقة بالآخرين فهي تطبعهم بسمات منها الشغب، العند، الميل إلى العدوانية، الانفعال والغيرة الشديدين ويصاحبها ضعف المبادئ، ضعف الانتماء، التخلي عن القيم، ووجود أزمة هوية يشعلها الشعور بالظلم، والرغبة في الخروج على المجتمع، وحب امتلاك الثروة، والتشتت العاطفي.

طبعاً هذه الآثار لا تنطبق على من يعمل مقابل النقود، والذي يشبه بمظهره المتسول لكن بقيمه، وعمل لا يشبهه أبداً، فترى هذه الفئة منهم معتزين بعملهم، يشعرون بثقة في أنفسهم، ويثابرون على عدم التشبه بالشريحة السابقة، فتكون ردة فعلهم على من يعاملهم بالمثل من العامة مفاجئة، وغير متوقعة.

الظاهرة بوجهيها المذكورين سابقاً، تعتبر من مسؤولية وزارة التربية والتعليم أولاً، حيث أنها هي المكلفة من قبل الدولة باحتضان وتقويم الاطفال والاحداث، فضلاً عن مسؤوليتها في تقديم العلم الذي يفتح طريق المستقبل الناجح، ولكن أين هيكلة التربية فيها وهي غائبة عن هذه الظاهرة، أما بالنسبة للجمعيات الخيرية فنتساءل أين هُم من هؤلاء الأطفال؟ نحن نعلم أن هناك جمعيات خيرية عديدة ولكن واقع نشاطها ضئيل جداً مقارنة بالواقع المأساوي الذي تعيشه هذه الشرائح..