الحوار في القرآن الكريم الله مع الملائكة, موسى(ع) مع قومه أنموذجاً

م.م. علي محمد عبد الحسين أبو شبع

إن أول من بدأ بالحوار في إطار القرآن الكريم هم الملائكة (عليهم السلام)، وبدأ هذا الحوار في اللحظة التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل في الأرض خليفة، فأراد أن يخلق الإنسان لكي يُناط به هذه المهمة الصعبة، فقال سبحانه وتعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)(البقرة 33)، هذا الاستفهام الذي حكاه القرآن عن الملائكة: (قَالُوا أَتَجْعَلُ ...)، ثم قرن هذا الاستفهام بأمر الخلافة، وكان في القرآن المكي، (السجود) مقرونا بأمر (الخلق)، ثم اختفاء دور (إبليس) هنا، وكان له وجود ظاهر في العهد المكي هذا الاستفهام يبدو في الظاهر أنه استفهام اعتراض من الملائكة على شيء أراده الله، والاعتراض ضرب من ضروب المعصية، والمعصية من الملائكة معدومة؛ لان الله أخبر عنهم وخبره محض صدق، نحو قوله تعالى: (لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)(التحريم/ 6)، كما قال (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)(الأنبياء/ 27)، لهذا كان لهذا الاستفهام مزيد عناية من الدارسين، اختلف المفسرون في نوع غرض هذه الآية (أَتَجْعَلُ فِيهَا): أشار الزمخشري (ت538هـ ) في (الكشاف) أن الاستفهام هو تعجب. وكذلك أبو السعود (ت982هـ) في (إرشاد العقل)، أيضاً يوافق الزمخشري، وأشار إلى التعجب، والرازي (ت606هـ) في (التفسير الكبير)، أيضاً أشار إلى التعجب.

وكلام المفسرين طويل، وهم أشاروا إلى التعجب في عصمة الملائكة، مهّدوا به للقول بأن الاستفهام كان للتعجب من كمال علم الله سبحانه وتعالى، وأحاطت حكمته بما خفي على كل العقلاء.

ويُشير محمد رشيد رضا (ت1935م) في (تفسير المنار)، إلى أن المراد من الاستفهام في إيجاز فقال: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) بادروا إلى السؤال هو استفهام الاستغراب و(قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)، فيغفل بذلك عن تسبيحك وتقديسك.

وذكر الآلوسي (ت127هـ) في (روح المعاني)، وهو القول الأرجح: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) استكشاف عن الحكمة الخفية، وعما يزيل الشبهة، وليس استفهاما عن النفي الجعل والاستخلاف؛ لأنهم علموه قبل. فالمسؤول عنه هو الجعل، لكن لا باعتبار ذاته، بل باعتبار حكمته ومزيل شبهته، أو تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها أو يستخلف مكان أهل الفساد يعني الشياطين مثلهم يعني آدم وبنيه...، وقيل الاستفهام محض أي حقيقي حُذف فيه المعادل، أي (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) أم تجعل من لا يفسد. ونحا القرطبي (ت617هـ) في (الجامع لأحكام القرآن) منحى الآلوسي، فجوّز أن يكون الاستفهام حقيقياً على حذف المعادل الذي حكاه الآلوسي ولكن بعبارة مختلفة، وزاد عليه إرادة الاستعظام والإكبار، فقال: جاء قولهم (أَتَجْعَلُ فِيهَا) على جهة الاستفهام المحض: أهذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا؟ وأما أن يكون للإعظام والإكبار للفعلين جميعا: الاستخلاف والعصيان. خلاصة حوار الله مع الملائكة: الاستفهام في هذه الآية حقيقي؛ لسببين, السبب الأول أن الملائكة طلبوا الفهم أي تصور لسؤالهم ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ وتكملة الآية بمعنى الجواب ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾. وذكرنا سابقاً تعريف الاستفهام الحقيقي هو السؤال الذي يطلب جواباً, السبب الثاني, لو رجحنا بأن الاستفهام تعجب كما قال الزمخشري وأبي السعود, أو رجحنا استغراب كما قال محمد رشيد رضا, تكون معصية للملائكة لله سبحانه وتعالى والملائكة معصومين من الخطأ؛ لأن كل من يتعجب أو يستغرب من أفعال ألله سبحانه وتعالى يعصي الله, ولا نجد في كثير من التفاسير أن الملائكة في هذه الآية عاصين الله سبحانه وتعالى, فالاستفهام هنا حقيقي كما قال الآلوسي والقرطبي, الملائكة يستفهمون من الله سبحانه وتعالى لماذا الله سبحانه وتعالى يجعل في الأرض خليفة... 

 أما ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون﴾، والهمزة للاستفهام: للتذكير والتحقيق، المعنى: ألم أنبئكم بأني أعلم ما غاب في السموات عنكم، وقد أبرز الفعل هنا للاهتمام بالخبر والتنبيه على إحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء. أما حوار موسى(ع) مع قومه حول قضايا عدَّة، تمثلت فيها حالات من فقدان الانضباط والانسجام مع دعوته من قبل قومه، فقد كان دورهم في بعض المواقف دور الفضولي، والذي يكثر من الأسئلة بلا حاجة، في قضية معرفة المقتول من قوم موسى(ع)، فطلبوا منه أن يخبره ربه منْ هو القاتل، فقال لهم موسى(ع) نحو قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)(البقرة/ 67)، اختلف المفسرون في غرض هذه الآية من حيث النوع والغرض (أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) أشار أبو السعود (ت982هـ) في (إرشاد العقل) أنه استفهام مجازي للاستبعاد والاستخفاف، ونقل الرازي (ت606هـ) في (التفسير الكبير) عن القفال أن الاستفهام في هذه الآية إنكار. هؤلاء المفسرون الذين حملوا الاستفهام على الاستبعاد والاستخفاف والإنكار، يرونه بلا نزاع أنه استفهام مجازي، صاحوا به في وجه موسى(ع) لما فاجئهم بهذا الأمر الغريب, أما إبن عاشور (ت1973م) في (التحرير والتنوير)، فجاء بالقول الأرجح فقد نحا منحى مختلفاً تماماً عن منحاهم، وجزم بأن الاستفهام في الآية استفهام حقيقي لا مجازي، وعلل هذا بنو إسرائيل ظنوا أن موسى يهزأ ويسخر منهم: والذي نميل إليه هو ما قاله إبن عاشور، وسياق الجواب: (قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) هو الدليل الذي يدل على استفهامهم أي: طلب التصور بذبح البقرة. فأستمر الحوار فقالوا لموسى(ع) نحو قوله تعالى: (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ)( البقرة/ 68-70), أما الاستفهامات الثلاثة التي في هذه الآيات فهي على الترتيب: (ما هي؟- ما لونها؟- ما هي؟) استفهامات حقيقية لا مجاز فيها، والاستفهام الحقيقي بوجه عام واضح الدلالة على المراد منه؛ لذلك فإننا لن نقف أكثر من هذا أمام هذه الاستفهامات الثلاثة لوضوح معناها وبقيت كلمة نقولها، وهي: إن تكرار الاستفهام من قوم موسى هكذا: سؤال عام عن البقرة، ثم سؤال خاص عن لونها، ثم عودة إلى سؤال عام عنها، هذا التكرار فيه دلالة واضحة على لجاجة بني اسرائيل وتلكئهم فيما يطلب منهم من أوامر ونواهٍ وتكاليف، لو سارعوا إلى تنفيذ الأمر وذبحوا أي بقرة لأجزأتهم، ولكن شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم وهذا دأبهم إلى الآن.