سيرة خاتم الانبياء (ص) ــ الزّواج الخالد

وُلِد محمّد (ص) في بيت من أرفع بيوت العرب شأناً، وأعلاها مجداً، وأكثرها عزّة ومنعة، فكبر (ص) وترعرع وشبّ وشبّت معه آمال الحياة كلّها. وها هو محمّد في ريعان الشباب، وقمة الفتوّة وعنفوان الرجولة؛ إنّه شاب من أكثر شباب قريش فتوّةً وجمالاً، وأعلاها شرفاً ونسباً، وهو بعد ذلك، يمتاز عن سائر شباب قريش بشرف نفسه، وكمال خلقه، ونضج شخصيّته، فقد شاء الله أن يربّي محمّداً (ص) ويعدّه، ويؤهّله لحمل الرسالة والاضطلاع بتبليغ الأمانة.

لقد اُحيط محمّد برعاية إلهيّة خاصّة، أهّلته وفق قدر ربّاني لما ينتظره من عظم المسؤولية، وما يمكِّنه من حمل الرسالة، ونشر الدعوة: نسبه، أرض مولده، طفولته، تربيته، زواجه، وكلّ شيء في حياته.

وها هو (ص) يبلغ من الشباب وعلى وجه التحديد سنّ الخامسة والعشرين من عمره الشريف، فكان ولابدّ له من الاقتران بامرأة تناسب إنسانيّته، وتتجاوب مع عظيم أهدافه، وترتفع إلى مستوى حياته، بما ينتظرها من جهاد، وبذل وصبر، ولم يكن في دنيا محمّد (ص) من امرأة تصلح لهذه المهمّة غير خديجة (رض)، وشاء الله ذلك، فيتّجه قلب خديجة نحو محمّد (ص)، ويتعلّق بشخصه الكريم، وتطلب هي الزّواج منه، فيقبل (ص) ذلك الطّلب، ويقترن بخديجة (رض).

 تزوّج رسول الله (ص) خديجة، وهو لمّا يزل في الخامسة والعشرين من عمره الشريف. وبعد أن تمّ الزّواج المبارك انتقل رسول الله (ص) إلى دار خديجة؛ تلك الدار التي ما زالت مَعْلَماً شاخصاً ولساناً ناطقاً يحكي أحداث الدعوة والجهاد وصبر رسول الله (ص) ومعاناته.

تحدّث ابن جرير الطبري عن هذا المَعْلَم والبيت المبارك فقال: "وكان منزل خديجة يومئذٍ المنزل الذي يعرف بها اليوم، فيقال منزل خديجة، وأمّا الحجر الذي على باب البيت عن يسار من يدخل البيت، فإنّ رسول الله (ص) كان يجلس تحته، ويستتر به من الرّمي إذا جاءه من دار أبي لهب ودار عدي بن حمراء الثقفي خلف دار ابن علقمة، والحجر ذراع وشبر في ذراع".

وهكذا تكوّنت الأُسرة، واجتمعت الأركان فشُيِّد بيت النبوّة من الزّوجة (الطّاهرة) أُمّ المؤمنين الكبرى، خديجة بنت خويلد، والزّوج الرّسول محمّد (ص) ذي الخلق العظيم، الذي سمّته قريش أيّام جاهليتها بـ(الصّادق الأمين).

كانت هذه الأُسرة المثالية واحة الفضيلة في صحراء الجاهلية، وبحبوحة السعادة في دنيا الشقاء آنذاك؛ يغمرها الحبّ، ويشدّ أواصرها الإخلاص. أحبّ رسول الله محمّد (ص) خديجة (رض) وأحبّته، وأخلص لها وأخلصت له، فلم يكن يرى في الدُّنيا مِنَ النِّساء مَن تُعادِلْ خديجة، فهي أوّل مَن آمنت برسالته، وصدّقت دعوته، وبذلت مالها وثروتها الطائلة في سبيل الله تعالى، ومن أجل نشر الدعوة الإسلامية؛ فتحمّلت مع رسول الله (ص) عذاب قريش ومقاطعتها وحصارها.

وكان هذا الإخلاص الفريد، والإيمان الصادق، والحب المخلص من خديجة، حريّاً بأن يقابله رسول الله (ص) بما يستحقّ من الحبّ والإخلاص والتكريم، وبلغ من حبِّه لها، وعظيم مكانتها في نفسه الطاهرة، أنّ هذا الحبّ والوفاء لم يفارق رسول الله (ص) حتى بعد موتها، ولم تستطع أي من زوجاته أن تحتلّ مكانتها في نفسه؛ فقد رُوي عنه (ص) أنّه كان إذا ذبح الشاة يقول: "(أرسلوا إلى أصدقاء خديجة) فتسأله عائشة في ذلك فيقول: (إنِّي لأحبّ حبيبها)". ويُروى أنّ امرأة جاءته (ص) وهو في حجرة عائشة، فاستقبلها واحتفى بها، وأسرع في قضاء حاجتها، فتعجّبت عائشة من ذلك، فقال لها رسول الله (ص): "إنّها كانت تأتينا في حياة خديجة".

وجرت مرّة محاورة بين رسول الله (ص)، وزوجته عائشة، حين شعرت بالغيرة تملأ قلبها من كثرة ذكره لخديجة، وتعلّق حبّه بها، فقالت له: "ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين، قد أبْدَلَكَ الله خيراً منها، فآلمَ النّبيّ (ص) هذا القول: وردّ عليها قائلاً: "ما أبدلني الله خيراً منها، كانت أُمّ العيال، وربّة البيت، آمنت بي حين كذّبني الناس، وواستني بمالِها حين حرمني الناس، ورُزِقتُ منها الولد وحُرِمتُ من غيرها").

 وخديجة بنت خويلد حَريّة بهذا القدر والمقام عند رسول الله (ص)، بعد أن حازت المقام الرفيع والدرجة السامية عند ربّها، فهي المرأة التي حباها ربّ العالمين، وبشّرها بالخلد والنعيم، فقد رُويَ: "أنّ جبريل أتى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله! هذه خديجة، قد أتت معها إناء فيه أدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربِّها، ومنِّي، وبشِّرها ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب".

ولذا قال فيها رسول الله (ص): "أفضل نساء أهل الجنّة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون".

المصدر: كتاب محمد رسول الله/ مؤسسة البلاغ