الأوضاع قبل البعثة النبوية

 

مَن يستنطق سجل التاريخ ويقرأ صفحاته وآثاره قراءة تحليلية واعية، ويستقرئ آيات القرآن الكريم، ويتعمق في فهم وتفسير ومعرفة طبيعة المجتمع وتكوينه النفسي والاقتصادي والثقافي والعقائدي والاجتماعي، من خلال أسباب نزو الآيات التي تحدثت عن أوضاع العرب وطبيعة أصحاب الديانات السماوية والوثنية، وما وصلت إليه من تردّ وسقوط، مَن يستقرئ كل تلك المصادر ويستنطقها يكتشف الصورة المأساوية والأوضاع المتخلفة التي كان يعيشها العرب في الجزيرة، والعالم الجاهلي المتحضر نسبياً من حولهم آنذاك، لقد كانت تلك المنطقة من العالم، بما فيها مكة التي تعتبر مركزاً مهماً من مراكز العرب التجارية والسياسية والدينية، تعيش حالة من التخلف والانحطاط بكل معانيه.

فلقد كان الجهل والأمية والخرافة تسيطر على الجزيرة العربية وتعبث بالعقول والمعتقدات، فلم يكن في مكة مَن يعرف القراءة والكتابة غير عدد قليل يعدّ على الأصابع كما يذكر المؤرخون ذلك.

كما لم يكن العرب أهل كتاب ولا ديانة سماوية ترفع من مستواهم الفكري، أو تنظم حياتهم الاجتماعية، وتعمق وعيهم الحضاري.

بل كانوا أعراباً جاهليين يعبدون الأصنام والأوثان والجن والنجوم والملائكة، وقليل منهم كانوا على دين إبراهيم أو المسيح (ع)، ومن الجدير بالذكر هنا أن مكة كانت بلد التوحيد، ومنطلق الإيمان أيام إبراهيم وإسماعيل (ع)، اللذان بعثا قبل بعثة نبينا محمد (ص) بأربعة آلاف سنة تقريباً.

فقد دعا إبراهيم وولده إسماعيل (ع) بدعوة الإصلاح والتوحيد، وأسّسا البيت الحرام، وجعلاه بيتاً للتوحيد وعبادة الرحمن.

لقد حكى القرآن هذه الحقيقة ووضحها بقوله: (وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) الحج/ 26. (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة/ 127.

وقد انتشرت دعوة إبراهيم في جزيرة العرب، وجعل البيت الحرام مركزاً لهذه الدعوة السامية، ومما تجدر الإشارة إليه أن قريشاً تنتسب إلى النبي إسماعيل بن إبراهيم (ع) وتعتز بذلك، وإن محمداً (ص) هو من ذريته المباركة.

وبعد فترة من الزمن دخلت الوثنية إلى مكة، ويذكر المؤرخون أن قبيلة ((جرهم)) كانت تتولى سدانة الكعبة ورعايتها ، فأزاحتها قبيلة خزاعة بالقوة، واستولت على موقعها الديني هذا، فدنّست البيت الحرام، وأدخلت إليه الأصنام والوثنية.

فكان أول مَن أدخل الأوثان إلى الكعبة ((عمرو بن لحي)) زعيم خزاعة، الذي انتصرت بقيادته على قبيلة جرهم، فقد جاء بالصنم الكبير ((هُبل)) ونصبه في البيت، فغيرت معالم التوحيد، وحرّفت الحنيفية التي دعا بها إبراهيم وولده إسماعيل (ع).

ويذكر المؤرخون أن عمرو بن لحي كان قد نقل فكرة الوثنية من بلاد الشام التي زارها، ورأى وثنية أهلها، فتأثر بها.

وهكذا سادت الوثنية في مكة وغابت معالم التوحيد، ودنّس البيت الحرام، رغم تعظيم قريش وقبائل العرب كافة لهذا البيت المقدس واهتمامها بحجه وتقديسه أيام الجاهلية والوثنية، فكانت تعتبره حرماً آمناً وبيتاً مباركاً.

وإذا كانت هذه هي عقيدة العرب السائدة آنذاك، وصيغة دياناتهم، فإن الأمم الأكثر حضارة وتقدماً منهم، وهم اليهود والنصارى والمجوس، كانوا أيضاً يعيشون حياة الجاهلية والضلال والانحراف العقائدي والظلم والاضطهاد السياسي والاجتماعي، ويخضعون لتسلط الطواغيت، فقد حرّف اليهود التوراة وشريعة موسى وما جاء به الأنبياء الذين بعثوا قبلهم.

كما حرّف النصارى الإنجيل وتلاعبوا بدعوة المسيح وعقيدة التوحيد التي طبّعوها بطابع الوثنية والتثليث، الذي تسرب إليهم من الحضارة الرومانية الوثنية والفكر اليهودي المنحرف.

فعدّوا الخالق العظيم ثالث ثلاثة (الأب والابن وروح القدس)، كما حرّفت بقية المبادئ والمرتكزات العقائدية والتشريعية في الديانة المسيحية، وكانت النصرانية آنذاك تملك قوة سياسية ومدنية هائلة، فقد كانت في بلاد الشام دولة الروم المسيحية، كما كانت مصر دولة مسيحية قوية أيضاً، وفي بلاد الحبشة كانت دولة الأحباش المسيحية التي تقع في الجنوب الغربي من الجزيرة العربية، في الوقت الذي كان فيه انتشار كبير للمسيحية في بلاد اليمن، بلاد الخصب والمدنية في جزيرة العرب، في حين كانت المجوسية (عبادة النار) الديانة السائدة في بلاد فارس التي تقع شرق الجزيرة العربية، وكانت دولة الأكاسرة القوة السياسية والمدنية الكبرى القائمة في تلك المنطقة آنذاك وكان لها امتداد في بلاد اليمن داخل الجزيرة العربية، كما كان لها امتداد داخل أرض الرافدين أيضاً.

وهكذا كانت تحيط بالعرب البدو المتخلفين، ثلاث دول كبرى، هي دولة الروم في المغرب، ودولة الفرس في المشرق، ودولة الأحباش في الجنوب، وكانت قوى سياسية وحضارية كبرى.

في حين كان العرب في مكة وما حولها لا يعرفون في تلك الفترة مفهوم الدولة والسلطة السياسية ولا التنظيم الإداري، ولا الحياة المدنية المستقرة.

فقد كانوا يعيشون سلطة القبيلة وتسلط الأسياد والأقوياء على الفقراء والعبيد، وكان المجتمع المكي مجتمعاً يتكوّن من ثلاث طبقات متميزة هي:

1 ـ طبقة الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال، أمثال أبي سفيان وأبي لهب والوليد والعباس بن عبدالمطلب وغيرهم، وكانوا يمثلون الطبقة الرأسمالية الربوية والتجارية، التي تملك السلطة والسيادة، والتي كانت بسيطرتها على مكة وعلى البيت الحرام آنذاك، تملك نفوذاً واسعاً بين قبائل العرب وشعوبها.

2 ـ طبقة الفقراء والمعدمين الذين كانوا يعيشون حالة الفقر والبؤس والاضطهاد الاجتماعي.

3 ـ طبقة العبيد: وهي الطبقة التي لم تكن تعيش حالة الفقر والبؤس وحسب، وإنما كانت تعامل معاملة الحيوانات والمنبوذين، ويموت العبيد تحت السياط وأقدام الأسياد.

لقد كان الفقر والبؤس والجهل والمرض، أشباحاً مرعبة تسيطر على قبائل العرب المتناثرة في جزيرتها الموحشة الجرداء.

تلك الحياة والوضعية الاجتماعية المزرية، التي صوّرها لنا القرآن الكريم حين هاجم أصحاب رؤوس المال الجشعين، عندما تحدث عن حالة البؤس والفقر، الفقر الذي دعا بعضهم إلى قتل أولادهم والتخلص منهم.

لقد صورت إحدى آيات القرآن الكريم هذه الصورة المأساوية المروعة بنصها: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم) الإسراء/ 31.

فشرحت أبعاد المأساة الاقتصادية والوضع الاجتماعي المتردي، الذي كان يعيشه العرب تحت وطأة الجاهلية. ويتحدث القرآن في آيات أخرى عن الخوف والفقر فيذكّر بنعمة الإسلام الذي أبدلهم بالخوف أمناً حين ثبّت هذه الحقيقة بقوله: (أوَلَم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) العنكبوت/ 67.

قال الطبرسي مُبيِّناً معنى الآية هذه، في تفسير مجمع البيان: ((أي ألم يعلم هؤلاء الكفار (أنا جعلنا حرماً آمناً) يأمن أهله فيه من القتل والغارة، (ويتخطف الناس من حولهم) أي يقتل بعضهم بعضاً فيما حولهم وهم آمنون في الحرم)).

وقال الراغب الاصفهاني في معجم ألفاظ القرآن: ((أي يُقتَلونَ ويُسلَبون)).

ويذكر القرآن بتلك الصورة المأساوية، صورة الرعب والخوف والفقر بقوله: (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) قريش/ 3 ـ 4.

أما المرأة فكانت تعاني حياة البؤس والشقاء، وتُعامل معاملة الحيوانات والمتاع، فلا حقوق لها ولا كرامة، بل ولا يسمح لها أنْ تعيش على سطح هذه الأرض، وهي في عرف ذلك المجتمع الجاهلي مُلك للرجل، وتورث كما تورث الحيوانات والممتلكات الأخرى فقد كان الأبناء يرثون زوجات الآباء ويتزوجونهن.

تلك الظاهرة البشعة التي أشار إليها القرآن الكريم، وحرّم الإقدام عليها بقوله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً) النساء/ 22.

بل وكان أحدهم إذا ولدت امرأته بنتاً، سيطر عليه الهمّ والحزن، وشعر بالخوف من العار وسوء السمعة، ولجأ إلى قتلها أو دفنها حيّة أو تقبّلها على مضض واحتقار وكراهية، فكانت المرأة ضحية هذه العقلية المتخلفة والأعراف الاجتماعية البالية، فبلغت الجريمة والقساوة والوحشية بأولئك القساة الجفاة أن يدفنوا بناتهم وهن أحياء، للتخلص من الإنفاق عليهن، ومن العار والشنار الذي يخشون وقوعه من المرأة.

ويسجِّل القرآن تلك المشاهد المأساوية في تاريخ المرأة المنكودة وينتصر لها ويدافع عن انسانيتها المعذبة فينادي في مجتمع العرب آنذاك مستنكراً أعرافهم ومواقفهم بقوله: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون) النحل/ 58 ـ 59.

ثم يرفع صوته مرة أخرى مدافعاً عن انسانية المرأة وكرامتها: (وإذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت) التكوير/ 8 ـ 9.

بل وينحط مستوى المرأة في ذلك المجتمع الجاهلي المتخلف، فتتحول إلى سلعة وأداة للإشباع الجنسي، فينتشر البغاء والإباحية بشكل جعل المرأة تختار من بين الرجال الذين يمارسون معها عملية الزنا رجلاً، فتنسب إليه ابنها وتعتبره أباً له.

وليست هذه الصورة الإباحية الحيوانية هي أبشع صور الانحطاط الجنسي، بل وكانت هناك الأحياء الخاص بالبغايا اللواتي يرفعن الأعلام الحمراء، ويحترفن البغاء، فكانت العرب تسميهن بذوات الأعلام، بل كان البعض منهم يحترف الاكتساب بالبغايا، فيشتري الجواري ويسخرهن للعمل بالزنا وكسب المال من هذه الممارسة الجنسية.

وجدير ذكره هنا أن تلك الظاهرة الأخلاقية الجاهلية، هي ظاهرة متفشية اليوم في المجتمعات الجاهلية المعاصرة، كالمجتمع الأوربي والأمريكي والمجتمعات الماركسية المتأثرة بهذا الأسلوب الجاهلي المنحط في كل أنحاء العالم، خصوصاً في العالمين الشرقي والغربي، مما يكشف وحدة السلوك والأخلاق والاتجاه الجاهلي.

ولقد تحدث القرآن عن تلك الظاهرة الأخلاقية الجاهلية، وحرّمها في العديد من آياته، وثبّت العقوبة الحاسمة على مقترفها، تلك الجريمة التي قادت البشرية اليوم إلى أسوأ كارثة تهدد الحياة بأسرها، وهي كارثة هدم الأسرة، وتمزيق روابط الحياة الاجتماعية المستقرة، وانتشار الأمراض الجنسية، كمرض الزهري والسفلس ومرض الأيدز، الذي يعد بعض العلماء خطره بأعظم من خطر القنبلة الذرية على البشرية.

لقد تحدث القرآن عن هذه الظاهرة بعدة آيات منها:

(محصنين غير مسافحين) النساء/ 24.

(والزانية لا ينكحها إلا زان) النور/ 3.

(ولا متخذات أخدان) النساء/ 25.

(ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً) النور/ 33.

وقد وضع المفسرون أسباب نزول هذه الآيات فشرحوا لنا الوضعية الاجتماعية المنهارة آنذاك، وصورة الانحطاط والمعاملة الوحشية للمرأة.

وهكذا تتجسد طبيعة ذلك المجتمع الجاهلي المتخلف، تلك الطبيعة التي وصفها جعفر بن أبي طالب في حديثه للنجاشي ملك الحبشة بقوله:

((أيها الملك كنّا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لتوحيد الله وأن لا نُشرك به شيئاً، ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام)).

وهكذا تتجسد أمامنا الحياة الجاهلية بكل أبعادها ومرارتها وانحطاطها الأخلاقي والاقتصادي والعقائدي والسياسي والأمني والاجتماعي … الخ.

وعندما نعرف هذه الحقيقة نستطيع أن نفهم الإسلام وعظمة نبي الإسلام الهادي محمد (ص) الذي استطاع بمشيئة ولطف إلهيين أن ينقذ البشرية، ويعضها على طريق المدنية والاستقامة السلوكية، مبتدئاً بمن حوله من العرب، وممتداً برسالته العالمية التي حملتها من بعده أمته، وبشّر بها الدعاة إلى الله سبحانه في كل مكان، وهي اليوم قوة حضارية، ورسالة الإنسان المتحضر والعقل العلمي المتحرر من سيطرة المادية والشهوانية المنحرفة.

وصدق الله الذي وصف رسالة نبيه بقوله:

(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله مَن اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) المائدة/ 15 ـ 16.

(ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) الأعراف/ 157.

(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) الأنفال/ 24.

المصدر: كتاب محمد رسول الله