عهد الإمام الحسن ((عليه السلام)) ــ البيعة العامة / الحلقة الثالثة

 

ونحن إذ نورد نص جواب معاوية إلى الإمام الحسن (عليه السلام) لنرى إلى أي حد وصلت وسائل المكر بمعاوية في أن يلبس مسوح الإسلام ويغطي نفسه بجلباب الرعيّة ليتحدث باسم الإسلام، فيقول في رسالته: (قد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت به محمداً رسول الله من الفضل، وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله، قديمه وحديثه، وصغيره وكبيره، وقد والله بلّغ وأدّى، ونصح وهدى، حتى أنقذ الله به من الهلكة وأنار به من العمى، وهدى به الجهالة والضلالة، فجزاه الله أفضل ما جزى نبياً عن أمته... وذكرت وفاته وتنازع المسلمين الأمر بعده وتغلبهم على أبيك، فصرّحت بتهمة أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وأبي عبيدة الأمين، وحواريي رسول الله، وصلحاء المهاجرين والأنصار، فكرهت ذلك لك،.. وإنك أمرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين، ولا المسيء ولا اللئيم، وأنا أحب لك القول السديد والذكر الجميل، وإن هذا الأمة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم، ولا سابقتكم ولا قرابتكم من نبيكم، ولا مكانكم في الإسلام وأهله، فرأت الأمة أن تخرج من هذا الأمر لقريش، لمكانها من نبيها، ورأي صلحاء الناس من قريش، والأنصار وغيرهم، وسائر الناس وعوامها، أن يولوا من قريش هذا الأمر أقدمها إسلاماً وأعلمها بالله، وأحبها وأقواها على أمر الله، فاختاروا أبا بكر وكان ذلك رأي ذوي الدين، والفضل، والناظرين للأمة، فارفع ذلك في صدوركم لهم التهمة، ولم يكونوا متهمين، ولا فيما أتوا بالمخطئين، ولو رأى المسلمون إنّ فيكم من يغني غناءه ويقوم مقامه، ويدب عن حريم الإسلام دبه، ما عدلوا بالأمر إلى غيره، رغبة عنه ولكنهم عملوا في ذلك بما رأوه صلاحاً للإسلام وأهله، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خيراً.

 

وقد فهمت الذي دعوتني إليّه من الصلح والحال فيما بيني وبينك اليوم، مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي! فلو علمت إنك أضبط مني للرعية، وأحوط على هذه الأمة وأحسن سياسة وأقوى على جمع الأموال، وأكيد للعدو، لأجبتك إلى ما دعوتني إليه، ولو رأيتك لذلك أهلاً لسلمت لك الأمر بعد أبيك، فإن أباك سعى على عثمان، حتى قتل مظلوماً فطالب الله بدمه، ومن يطلبه الله فلن يفوته ثم ابتز الأمة أمرها، وخالف جماعتها فخالف نظراءه، من أهل السابقة والجهاد، والقدم في الإسلام، وادعى إنهم نكثوا بيعته، فقاتلهم، فسفكت الدماء واستحلت الحرم، ثم أقبل إلينا لا يدعي علينا بيعة ولكنه، يريد أن يملكنا اغتراراً فحاربناه وحاربنا، ثم صارت الحرب إلى أن أختار رجلاً واخترنا رجلاً ليحكما بما يصلح عليه، وتعود به الجماعة والألفة وأخذنا بذلك عليهما ميثاقاً، وعليه مثله، على الرضا بما حكما فأمضى الحكمان عليه الحكم، بما علمت وخلعاه، فوالله ما رضى بالحكم، ولا صبر لأمر الله، فكيف تدعوني إلى أمر، إنما تطلبه بحق أبيك وقد خرج، فانظر لنفسك ولدينك... وقد علمت، إني أطول منك ولاية وأقدم منك بهذه الأمة تجربة وأكبر منك سناً، فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني، فادخل في طاعتي أعاننا الله وإيّاك على طاعته، انه سميع مجيب الدعاء)...

 

ومن خلال نظرة خاطفة على رسالة معاوية فإنها تحتوي على مغالطات مفضوحة وكذب صريح ويكفي أن ندلل على ذلك أنه قال في رسالته إن الأمة اجتمعت على أبي بكر واختارته، فإذا كان كذلك، أو لم تجمع الأمة على الإمام علي (عليه السلام) فلماذا شهر سيف البغي ضده وأعلنها حرباً على الدولة الإسلامية وحتى قتل أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كعمار بن ياسر الذي قال عنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يا عمار تقتلك الفئة الباغية..). ومن فمك ندينك فلم يطلب معاوية البيعة من الإمام الحسن (عليه السلام) وقد بايعته الأمة وسلمته زمام أمورها؟ ثم إذا كانت جبهة الشام لم تبايع الإمام الحسن (عليه السلام)، فهي أيضاً لم تبايع ولم تدن في يوم من الأيام سلطة الخلفاء السابقين منذ ولاية معاوية عليها في عهد الخليفة الثاني عمر.

 

فأية ولاية يتشبث بها معاوية، وهي إنما كانت بئس الولاية وبئس التجربة، أراد منها زعامة سياسية وثاراً جاهلياً، وطمعاً شخصياً، وملكاً قلبياً. غير أنه لم يتخلّ عن مغالطاته الصريحة وكذبه المفضوح فقام ثانية بكتابة رسالة أخرى وبعث بها إلى الإمام (عليه السلام) وقال فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإن الله عز وجل، يفعل في عباده ما يشاء، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس، وآيس أن تجد فينا غمزة وإن أنت أعرضت عما أنت فيه وبايعتني، وفيت لك بما وعدت وأجزت لك ما شرطنا، وأكون في ذلك كما قال الأعشى بن بني قيس بن ثعلبة:

 

وإن أحــــــداً أســــــدى إلـيك أمانة           فاوف بها تدعــــــى إذا مــت وافياً

 

ولا تحسد المولى إذا كــان ذا غنى           ولا تجــــــفه إن كـــــان للمال فانياً

 

ثم الخلافة لك من بعدي، فأنت أولى الناس بها والسلام).

 

حاول معاوية في رسالته هذه أن يرفع الإثارة والحدية مع الإمام (عليه السلام) فاعتمد أسلوب المراوغة والالتفاف، غير أن الإمام الحسن (عليه السلام) كشف النقاب عن الإطراء الأموي المزيف وكتب جواباً مختصراً أكد فيه الإمام (عليه السلام) موقفه الثابت تجاه السياسة الأموية وقال فيه: (أما بعد: فقد وصل إليّ كتابك، تذكر فيه ما ذكرت، وتركت جوابك، خشية البغي عليك، وبالله أعوذ من ذلك، فاتبع الحق تعلم أني من أهله، وعليّ إثم أن أقول فأكذب والسلام) وبهذه الرسالة يكون الإمام الحسن (عليه السلام) قد أوصد باب المراوغة أمام معاوية بعد أن ألقى عليه الإمام (عليه السلام) الحجة في رسالته الأولى، خاصة وأن معاوية عكف على استخدام الخداع والحياد عن الحق، وعلى ذلك تكون ـ والحال هذه ـ لغة المخاطبة والحوار هي الحرب ولهذا أنهى الإمام (عليه السلام) بجوابه الأخير لمعاوية أسلوب التفاوض وتسوية الخلاف على أساس الطرق السليمة، طالما أن المعتدي يصر على موقفه الرافض للتسليم للإمام الحق والحاكم الشرعي.

 

 

التعبئة العسكرية في الدولة الإسلامية:

 

وبعد أن أوقف الإمام (عليه السلام) المكاتبات مع معاوية، قام بالتعبئة العسكرية العامة وتثوير الشعب، وتشجيعه وتكتيل الطاقات في الداخل للاستعداد لخوض الحرب ضد معاوية ومعسكر الشام.

 

وخطب الإمام الحسن (عليه السلام) في الناس بهدف اطلاع الرأي العام الإسلامي على أبعاد القضية الراهنة وطرق علاجها فاجتمع الناس حول الإمام حسن (عليه السلام) فقام الإمام (عليه السلام) خطيباً فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

 

(أما بعد: فإن الله كتب الجهاد على خلقه وسمّاه كرهاً، ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) فلستم نائلين ما تحبون إلا الصبر على ما تكرهون، وبلغني أن معاوية بلغه أنّا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرّك، لذلك اخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظرون). أراد الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة حث الناس على الجهاد وبعث فيهم الروح الثورية واستنهاض طاقات جماهير الأمة للحرب ضد معاوية.

 

 

أين الأمة من مسؤولية الجهاد؟

 

كانت الصدمة الأولى التي وقعت في بدء مرحلة الإعداد والتعبئة أن حصل إحجام من جماهير الأمة عن تلبية نداء قيادتها ورغبتها في الخنوع والراحة والتالي التنصل من الواجب المقدس..

 

وإن هذا الموقف المتخاذل الذي اتخذته جماهير الكوفة من الإمام الحسن (عليه السلام) إنما يعبر في حقيقته عن الروح الانطوائية وحب الراحة التي تعكس صورة الثقافة التخديرية الجامدة التي راجت وماجت في أوساط المجتمع الكوفي بعد أن خذل هذا المجتمع ـ من قبل ـ أمير المؤمنين (عليه السلام) وأكرهته على القبول بالمفاوضات مع معاوية.

 

وفي الواقع أن مثل هذه الثقافة من الممكن أن تغزو أي مجتمع خاصة وأنها تنمي عند الإنسان رغبة الراحة وحب الاستقرار وربما تجد لها مبرراً في أداء بعض المسؤوليات الدينية غير المجهدة أو المتعبة.. كما أن الناس حينما تعشق ثقافة الجمود يدفعها ذلك لأن تقف إلى جانب ذلك القائد الذي لا يطلب منها مسؤولية التحرك، ولا يكلفها مهمة البذل والعطاء، ولا يدفعها للإيثار والتضحية والذي بالتالي لا يعكر صف وضعها المعيشي...

 

ولذلك فإنّ مثل هذه الأمة تبحث وتتبنى الثقافة المخدرة الخاوية والخالية من المسؤوليات وتكتفي بتأدية الفرائض الاعتيادية والمسؤوليات البسيطة والتي لا تشكل خطورة عليها ولا تهدد مصالحها ورغباتها..

 

وفي مثل هذه الحالة، فإن البعض من الناس ترفض تبني الثقافة الثورية الداعية إلى الجهاد والتحرك والثورة ضد الواقع الفاسد، فتضع لنفسها التبريرات الواهية المستقاة من ثقافتها الجامدة فتعتبر التحرك الثوري تطرفاً، وأن الجهاد تهوراً وهكذا.

 

وهذا النمط من الثقافة ظهر وبوضوح في موقف الناس في الكوفة حينما دعا الإمام (عليه السلام) للتحرك والجهاد ضد معسكر الشام، حيث قابلت دعوة الإمام (عليه السلام) بالرفض ونكصت على عقبها وكأنما ألجمت أفواهها بالصمت معلنة عن تراجعها أمام قرار الحرب الذي اتخذه الإمام الحسن (عليه السلام).

 

وأمام هذا الموقف المتخاذل قام عدي بن حاتم من طليعة الإمام الحسن (عليه السلام) ليمزق طوق الصمت، مستنكراً من جواب الجماهير الانهزامي، ومعرباً عن سخطه وقال: (أنا ابن حاتم، سبحان الله ما أقبح هذا المقام ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم، أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة، فإذا جد الجد فرّوا مراوغين كالثعالب أما تخافون مقت الله ولا عيبها وعارها...).

 

نستوحي من كلمة عدي بن حاتم هذه أنه كان يوجه انتقاداً لاذعاً لتلك الفئة المتبنية للثقافة الاستهلاكية والترف الفكري، والتي تتغذى على ثقافتها في زمن الهدوء والاستقرار، وتتخلى عن ثقافتها ـ كما يشير عدي في خطبته ـ في وقت الصراع والمواجهة... ثم اقترب عدي من الإمام الحسن (عليه السلام) وقال كلمات أعرب فيها عن استعداده للجهاد معه قائلاً: (أصاب الله بك المراشد، وجنّبك المكاره، ووفقك لما تحمد ورده وصدره، قد سمعنا مقالتك، وانتهينا إلى أمرك وسمعنا لك وأطعناك فيما قلت وما رأيت وهذا وجهي إلى معسكري فمن أحب أن يوافيني فليواف..).

 

قال بعده قيس بن سعد، وقيس بن عبادة الأنصاري، ومعقل بن قيس الرياحي، وزياد بن صعصعة التميمي، وقالوا بمثل ما قال عدي فأنّبوا الناس ولا موهم على الموقف المتخاذل الذي اتخذوه من الإمام (عليه السلام)، ثم استحثوا الناس للحرب ومقاومة المد الأموي ثم جاءوا للإمام (عليه السلام) وأعلنوا له عن استعدادهم لخوض الحرب معه، والإمام (عليه السلام) بدوره أعرب لهم عن ارتياحه من الموقف البطولي لصحابته فقال لهم: (صدقتم رحمكم الله ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والقبول والمودة الصحيحة فجزاكم الله خيراً)..

 

ولكن الحال أن خوض الحرب بحاجة إلى جيش، وهذا لا يكون إلا بتجنيد أعداد كبيرة من الناس محاولاً استنهاضهم وتشجيعهم ثانية للالتحاق بجبهات الحرب فقام الإمام (عليه السلام) خطيباً وقال: (معشر الناس: عفت الديار، ومحيت الآثار، وقلّ الاصطبار فلا قرار على همزات الشياطين وحكم الخائنين، الساعة والله صحّت البراهين وفصّلت الآيات، وبانت المشكلات، ولقد كنا نتوقع تمام هذه الآية تأويلها، قال الله عز وجلّ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ).

 

فلقد مات والله جدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقتل أبي (عليه السلام)، وصاح الوسواس الخنّاس في قلوب الناس، ونعق ناعق الفتنة، وخالفتم السنّة، فيا لها من فتنة صمّاء عمياء لا يسمع لداعيها، ولا يجاب مناديها، ولا يخالف واليها، أظهرت كلمة النفاق، وسيّرت رايات أهل الشقاق، وتكالبت جيوش أهل العراق، من الشام والعراق، هلّموا رحمكم الله إلى الافتتاح، والنور الوضّاح، والعلم الجحجاح، والنور الذي لا يطفئ، والحق الذي لا يخفى.

 

أيها الناس: تيقظوا من رقدة الغفلة ومن تكاشف الظلمة، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، وتردى بالعظمة، لئن قام إليّ منكم عصبة بقلوب صافية وبنيّات مخلصة لا يكون فيها شوب نفاق ولا نية افتراق، لأجاهدن بالسيف قدماً ولأضيقنّ من السيوف جوانبها ومن الرماح أطرافها، ومن الخيل سنابكها فتكلموا رحمكم الله).

 

بهذا الخطاب البليغ الذي تقشعر له الأبدان وتصدع له العقول والأذهان، شرح الإمام الحسن (عليه السلام) خطورة الموقف، فدعا الناس إلى تحمل المسؤوليات الملقاة على عواتقهم. إلا أنه عميت أبصار قلوبهم عن مناصرة الحق ومقارعة الباطل، فاختارت لنفسها حياة الذل وسنرى ـ فيما بعد ـ كيف أن هذا الموقف الجبان كلف جماهير الكوفة وقطاع كبير من الأمة ثمناً باهظاً ومأساة رهيبة ونتائج سلبية في غاية الخطورة بسبب ذلك الموقف.

 

ومع ذلك لم يستسلم الإمام (عليه السلام) بالرغم من موقف الأمة السلبي هذا من أن يبادر في الاستعداد والتجهيز لحربه ضد معاوية، مع المجموعة تلك التي خرجت للقتال معه، هذه المجموعة التي سنأتي على شرح تركيبتها وقوامها، والدوافع الأساسية التي اعتمد عليها الإمام الحسن (عليه السلام) في إدخال هذه المجموعة ساحة الصراع المصيري ضد معاوية.

المصدر: كتاب (الإمام الحسن... القائد والأسوة) للشيخ حسين سليمان سليمان