بلعام ابن باعوراء.. بين حُسن الخاتمة وسوءها

سعد عبد الحسين                        

لقد قصّ ربّ العزة  بالقرآن الكريم في سورة الاعراف فقال عزَّ من قائل:

((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ۝ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ۝ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ [سورة الأعراف:175-177].

كان يعيش في أرض الشام رجل يُدعى بلعام، وهو من قوم موسى (عليه السلام) وكان حبراً من الاحبار ومن المقرّبين لموسى وعنده الاسم الاعظم لله تعالى الذي اذا دعا به استجاب له بالحال واللحظة، لذلك علَت مكانته في قومه لأن ما يدعو به يستجاب له بالحال، فقصدهُ المرضى واصحاب الحوائج والفقراء فكان يدعوا لهم فيستجاب دعائه. وهكذا علا صيته في قوم كنعان، الذين هاجروا من العراق الى الشام.

ثم ان نبي الله موسى (عليه السلام) ارسلَ بلعام الى الشام ليدعو قوم كنعان الى الله تعالى اي اصبح مثل وصي موسى (عليه السلام) الى ارض كنعان. ولما وصلَ بلعام الشام ليدعو قوم كنعان أغروه بالمال والمنصب وقالوا له انت عندك اسم الله الاعظم فادعوا الله على موسى ليخلصنا منه ومن بني اسرائيل، وهنا عندما عرض عليه المال والمنصب واغواه الشيطان انحرف عن جادة الايمان، لان الرجال تغوى عادة بالمال والنساء والمناصب.

 وفعلاً اراد بلعام ان يصعد الجبل  ببغلتهِ (انثى الحمار) ليدعوا على موسى (عليه السلام) وقومهُ من بني اسرائيل... لكن حماره لم يستجيب بالصعود فأخذ يضربهُ بقوة وهنا انطق الله جل جلاله الحمار فقال انا لا أوافقك بالذهاب الى معصية الله تعالى، فكيف تدعوا على نبي الله موسى وقومه؟

فأخذ بلعام يضربه ويضربه حتى مات، وقيل ان ثلاث حيوانات ستدخل الجنة يوم القيامة وهي كلب اصحاب الكهف وناقة صالح وحمار بلعام ابن باعورا  الذي فضّل الموت على معصية الله تعالى، وان يطيع بلعام بالصعود الى الجبل ليدعوا على نبي الله موسى وقومه بني اسرائيل.

وصعدَ بلعام ابن باعورا الى اعلى الجبل، واخذ يدعو على قوم موسى (عليه السلام) فردّ الله تعالى دعائه فاصبح كلما يدعو على قوم موسى (عليه السلام) ينعكس دعائه على  قومه، وكلما يدعو الى قومه بالتوفيق يذهب التوفيق الى قوم موسى (عليه السلام) . وصار ينطق بغير اختياره وبقي كذلك حتى اندلع لسانه وقال ذهبتْ دنياي وآخرتي، ولم يبقى سوى الحيلة والمكر.

أمرَ بلعام قومهُ بأن يزيّنوا النساء ويجمّلوهن، ويخرجوهن إلى معسكر موسى (عليه السلام) عليه السلام، وأن يحمّلوهنَّ بضاعة ليبيعوها لهم في معسكراتهم، وأن يأمروهنَّ بألّا يمتنعن إذا ما طلبهن أحد من رجال موسى (عليه السلام) ، لأنه إذا زنا أحد من جنود النبي موسى (عليه السلام) فقد انتهى أمرهم وكُف شرهم عن الكنعانيين، فهُم سيُعاقبون من الله عز وجلّ.
وهكذا ألهى قوم بني اسرائيل بالنساء. وأمر امرأة تُسمى بكشى بنت صور،  ان تغري رجل من زعماء بني اسرائيل يدعى بزمري بن شلوم، وكان رأس سبط من اسباط بني اسرائيل الاثنا عشر فأعجبَ بها وافتتن
فاخذها الى خيمته فقال له موسى (عليه السلام) هي حرام عليك فلا تقربها ولكنه لم يطع نبيه فدخل بها، فغضب الله تعالى على بني اسرائيل فعاقبهم بالطاعون فماتَ منهم سبعون الفاً.

وكان من ابطال  بني اسرائيل قائد يدعى صحاح ابن ايراد، وكان بسفَر فلما رجع رأى قومه فتكَ بهم الطاعون وتسائل ماذا حدث وعرف القصة فدخل الى خيمة بزمري وهو يضاجع المرأة فقتلهم جميعاً وقال:

اللهم هذا ما فعلنا بمَن عصاك فأرنا فعلك في عدونا واكشف عنّا ما ابتليتنا بسببه. فكشف الله تعالى عنهم عذاب الطاعون بعد ان قتل منهم سبعون الف.

اما بلعام الذي ارتدَّ وفضّل الدنيا على الآخرة فهو اول مَن افتى باستخدام النساء لغواية الشباب، وهذا اصبح منهج من مناهج بني اسرائيل، لغواية الشباب المؤمن وافسادهم الى يومنا هذا، وظل بلعام منبوذاً مهدل اللسان ونزل الى الحضيض واصبح من اصحاب النار، علماً ان حماره من اصحاب الجنة. هذه هي الغواية الشيطانية التي حوّلت رجل مؤمن مقرّب من نبي لتقواه وايمانه واصبح يملك اسم الله الاعظم الذي اذا دُعي به استجاب،  ويتحول هذا الرجل المؤمن بغواية الشيطان الى رجل  لعين ينطق عن لسان  الشيطان الرجيم، وجعله يدعو على نبي زمانه لأجل المال والمنصب.

عمر ابن سعد لعنه الله كان من المؤمنين وشارك مع الامام علي (عليه السلام)  في حرب صفين والنهروان ولكن عُرض عليه مُلك الري وهي بلاد ايران وافغانستان فطمعَ، وقبل ان يشترك بجيشه ويقوده لقتل الامام الحسين (عليه السلام)  فكر تفكيراً شيطانياً قارن ملك الري وهذا المنصب الكبير مع قتل الحسين (عليه السلام)  وهويعلم ان ذلك سوف يدفع ثمنه بعذاب الدينا والاخرة لذلك كان يقول بشعره:

فواللّه ما أدري وإنــــــــي لـحائرٌ   ***   أفكّرُ في أمــــري على خطرينِ

أأتركُ ملكَ الرّيِّ والرّيُّ مـــنيتي   ***   أم أرجعُ مأثــــــوماً بقتلِ حسينِ

حسينُ ابن عمي والحوادثُ جمّةٌ   ***   لعمري ولـي في الرّيِّ قرةُ عينِ

وإنَّ إلهَ الــــــــعرشِ يغفرُ زلّتي   ***   ولو كنتُ فــــــــيـها أظلمَ الثقلينِ

ألا إنمـا الدنيا بـــــــــخيرٍ معجّلٍ   ***   وما عاقلٌ بـاعَ الـــــوجـودَ بدينِ

يقولونَ إن اللّه خـــــــــــالقُ جنةٍ   ***   ونارٍ وتعذيـبٍ وغـــــــــــلِّ يدينِ

فإن صدقوا فيما يـقولـــون إنني   ***   أتوبُ إلى الرحمــنِ من ســـنتينِ

وإن كذبوا فزنا بدنــــيا عظيمةٍ   ***   وملكٍ عظيـــــــــــمٍ دائمِ الحجلينِ

بهذا التفكير الشيطاني  قرر عمر ابن سعد قتل الامام الحسين (عليه السلام) . الحر ابن يزيد الرياحي دخل عليه ليلة العاشر من محرم فقال له: احقاً تريد قتل الحسين (عليه السلام) قال بلى قتالاً ايسره ان تسقط الرؤوس والايدي.

هكذا يغلب الشيطان اوليائه فيردهم الى نار جهنم وجحيم الاخرة. لهذا نقول بالدعاء:

((ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا... ولا تخرجنا من هذه الدينا حتى ترضى عنا يا كريم))

مصيبة الدين أعظم مصيبة لماذا؟

لأنها تعني زوال نعيم الدينا والاخرة معاً. اما مصائب الدنيا في المال والولد  والمنصب فأن الله تعالى فيها تعويض، وأن المؤمن سوف يصبر عليها فيثاب عليها، وهكذا تتحول المصيبة الى ثواب والى كفاره عن الذنوب، ولهذا فهي بالحقيقة نعمة تستحق الشكر، لذلك قال امير المؤمنين علي (عليه السلام): (انا اشكر الله في الضراء كما اشكره في السراء فما من مصيبة الا والله جعل فيها نعمة تحيط بها).