شيخ المحققين العرب: عبد السلام هارون (1909م- 1988م)
د. علي ياسين
لكل أمة عريقة تراث علمي وإنساني زاخر تفخر به بين الأمم ويعتز به أبناؤها اعتزازا منقطع النظير، ولكن هذا التراث كثيرا ما يختلط ببعضه ويلتبس ويتداخل بسبب تغير الدهور وتطاول السنين، فتمحى فصول أو أجزاء من مخطوطاته النفيسة أو تضاف إليه بسبب جهل الكتّاب والمشتغلين بالتصحيف أمور ليست منه في الأصل مما يجعل مسألة غربلة هذا التراث وتصفيته مما علق فيه أمرا لا مندوحة عنه من أجل إخراجه في زمان غير زمانه بصورة تقارب أو تتطابق مع صورته التي كان عليها في زمانه الحقيقي!
وقد كان تحقيق التراث العربي القديم، في أوّل الأمر وفي بدايات عصر نهضة العرب الحديثة، عملاً مقصوراً على المستشرقين الذين احتكوا بثقافة العرب والمسلمين في عصور الغزو والاستعمار قبل قرنين من الزمان، ولا سيما منهم الذين عكفوا على فحص مخطوطاتنا العربية المنتشرة في مكتبات أوروبا، تحقيقاً ونشراً وفهرسة، في الوقت الذي كاد التراث العربي يضيع على أيدي أبنائه الذين أهملوه، وأضاعوه .
أما جهود المحقّقين المستشرقين الحقيقية فتعود إلى القرن السادس عشر على أيدي مجموعة من الروّاد مثل: جوليوس (1596 – 1676)، وبروك إدوارد “الأب” (1604 – 1691) وادوارد ”الابن” (1648 – 1727).. الذين نشروا نصوصاً عربية قديمة، مصحّحة مضبوطة، بعد أن بقيت سنوات طويلة طيّ النسيان.
في حين لم يلتفت العرب التفاتا جديا لنشر تراثهم إلا بعد إنشاء المطبعة الأميرية في بولاق 1820م، ومن ثم إنشاء دار الكتب “الكتب خانة” سنة 1870، حيث صدر عنهما الكثير من أمهات كتب التراث الذي كان مخطوطاً، لكن تلك الإصدارات اتّسمت جميعها بأنّها طُبعت من دون تحقيق أو مراجعة.
وكان الأستاذ عبد السلام محمد هارون المولود في مدينة الأسكندرية عام 1909م واحدا من أشهر محققي التراث العربي في القرن العشرين، وقد نشأ في بيت كريم من بيوت العلم فحفظ القرآن تحت رعاية أبيه الذي علمه مبادئ القراءة والكتابة، ثم التحق بصفوف الأزهر سنة 1921م، حيث تلقى علوم الدين والعربية ليتوظف معلما ابتدائيا لكنه كان أكبر من أن تنتهي آماله في مدرسة ابتدائية، حيث تدرج في تعليمه إلى ان انتقل إلى كلية دار العلوم بالقاهرة بصفة استاذ لمادة النحو وتحقيق نصوص التراث.
وكان هارون أحد مؤسسي جامعة الكويت في العام 1966م، وأحد أعضاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة، لكن عشقه لتحقيق نصوص التراث وتوقه إلى فك طلاسم المخطوطات هو شغله الشاغل الذي لم تخطفه المناصب والمراكز على ما فيها من بريق مادي يسيل له لعاب الراغبين والمنشغلين بغير العلم والتحصيل المعرفي.
واللافت في هذا العاشق المعتكف بين رفوف الكتب والهائم بروائحها العبقة ببخور العصور السالفة أنه بدأ فن التحقيق مع مراعاة أصوله وضوابطه المعرفية في سن مبكر حيث حقق وهو في السادسة عشرة من عمره، أي في العام 1925م كتاب (متن أبي شجاع) ثم تلاه في العام 1927 بكتاب مهم هو (خزانة الادب للبغدادي) وهو ما يشير إلى نباهته وقدرته على تحمل مسؤوليات جسام في فن التحقيق.
ولعل أبرز ما حققه هذا العالم الموسوعي، والمحقق المنتمي للرعيل الأول من جيل المحققين العرب كتب الجاحظ الملقب بأمير البيان العربي، حيث اعتنى هارون عناية فائقة بها وأخرجها على اتم صورة ابتداء من كتاب (الحيوان= 8أجزاء) مرورا بكتاب (البيان والتبيين= 4أجزاء) وانتهاء برسائل الجاحظ بأربعة أجزاء.
ولم تقف رحلة عبد السلام هارون عند كتب الجاحظ، إذ شملت –على سبيل المثال لا الحصر- معجم مقاييس اللغة لابن فارس، ومعجم صحاح الجوهري وتهذيب الصحاح للزنجاني، ومعجم تهذيب اللغة للأزهري، كما حقق من كتب النحو واللغة الكثير حيث تشير القائمة إلى تحقيقه لكتاب سيبويه بخمسة أجزاء، وخزانة الأدب للبغدادي في ثلاثة عشر مجلدا، وأمالي الزجاج، والاشتقاق لابن دريد، وديوان المفضليات والأصمعيات، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي، وشرح القصائد الطوال لابن الانباري، وبعضا من كتاب الأغاني لابي فرج الاصبهاني. دون أن ننسى بطبيعة الحال الكتب التي ألفها هارون بكدّ شخصي وهي كتب عديدة عبرت في أغلبها عن تجربته في تحقيق النصوص وخبرته في تدريس النحو وعلوم العربية الأخرى.
وهكذا فقد أمضى الأستاذ عبد السلام هارون رحلة معرفية امتدت لثلاث وستين سنة في تحقيق كتب التراث، وجلاء الكنوز الأدبية واللغوية مما رانها، إلى أن توفاه الله في العام 1988م، وهي رحلة أثرى من خلالها هارون المكتبة العربية، حتى صار رائداً من روّاد الحركة العلمية المعنية بالتراث العربي والإسلامي، فهو كما قيل عنه “محقّق الكتب العُمد، والأسفار الرئيسية في مكتبة العرب”. ومما أثر عنه أيضا أنه: “لم يخُطَّ أحدٌ في التراث العربي سطراً إلا وللعالم الجليل عبد السلام هارون مِنَّة عليه، ويَندر أن يتعامل أحد مع المصادر العربية دون أن يَستعين بمصدر من تحقيقات الشيخ الجليل، فقد قدَّم للمكتبة العربية دواوين التراث مجلوَّة في صورة بهيَّة، وزيَّنها بتعليقات وفهارس”.