نساء في ذاكرة الخلد: الشهيدة الأولى.. رمز التحرر الحقيقي

هيلين عبد الله

 سمية أم عمار، إسم يشعرنا بالعزة والافتخار، امرأة رسالية ذات مسيرة إلهية، وعت الحقيقة فرسمت خطواتها على هدى وبصيرة، فكانت سيدة جليلة بل ملكة وأميرة، وإن كان يبدو أنها لمن عرفها خادمة عند إبن المُغيرة؛ فالعبودية والخدمة من نصيب الأبدان التي تُستَرق، لا الأرواح التي تسمو وتتألق، وهكذا كانت أم عمار، عنوان التحرر من القيود والذل والصغار.

لقد أدركت ببصيرتها أن الحياة لحظات، وأن مصيرها إلى الممات، ولا بد والحال هذه أن تختط لنفسها دربا يجعلها من الصالحات الخالدات، وهكذا كان... بعد رحلة معرفة وصبر وجهاد وإيمان.

كان زواجها بياسر بداية سعادتها، ورزقها بعد ذلك بوليدها عمار سببا في هدايتها وهنائها ..

فعمار أسلم على يد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ونقل إليها ما سمعه من نبي زمانها، فوجدت كلمات الهدى طريقا إلى قلبها، وأحدثت تغييرا ملحوظا في مسيرتها، بعد أن أسلمت أسرتها، كما حدث في بيوت العديد من الذين أضاءت الرسالة الغراء أرواحهم حتى ذابوا في حبها.

وحينها انتفض مشركو مكة من التغيير الذي أحدثه الدين الجديد، فقد تمكنت الدعوة من نفوس الفقراء والعبيد، وبات الكل ينادي باسم (محمد) في ربوع الأرض التي أَنَّتْ لعهود من الجور الشديد.

ولما بدأت حرب الكفار على دين المختار، صب الانجاس جام غضبهم على رؤوس الناس، في محاولة يائسة للتأثير على أفكارهم وقناعاتهم، وجبرهم على التخلي عن معتقداتهم.

ولكن من أضاءت الحقيقة سماء روحه كيف له أن يعود إلى الظلام؟ ومن ناغمت حروف القرآن قلبه كيف يمكن أن يأنس بغير كلام؟!

ورغم ثبات أتباع الإسلام فإن أولئك الذين سلبهم الدين الجديد مكانتهم على حين غرة، وزلزل عروش ملكهم بآيات الكتاب ألف مرة، لا يمكنهم الانسحاب من الميدان، ولا يستطيعون الإعتراف بانتصاره وفشلهم مهما كلف الأمر من الأثمان؛ لذا تحركوا على الفقراء والعبيد والخدم، الذين أضاء التوحيد في حياتهم الظُلَم، ليعذبوهم ويُحمِلون أجسادهم النحيلة مختلف أنواع الأذى والألم..

وقد نالت أم عمار نصيبها من هذا العذاب، لتؤخذ من بيتها مع زوجها فترمل أجسادهم مع المسلمين بالتراب، وتربط الأطراف بحبال البلاء، وتترك في العراء تحت ايدي جلادين أشداء، ويمر عليهم الرسول ويبشرهم بالخير والقبول، فيقول: (صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة)، لتهتز الأرواح على وقع الكلمات، وتشتد المقاومة فتنتصر على كل الآلام والتحديات، وترسم المواقف العظيمة أجمل لوحة للصبر والحب والثبات..

نعم انتصرت أم عمار بعبوديتها لله تعالى على طواغيت زمانها، وفضحت خبث سرائرهم بصمودها وعدم هوانها، الأمر الذي أدى أن تنحر بيد الكفار، الذين كانوا يعتبرون أن قتل المرأة عار، لتكون شهادتها على يدهم بداية الفتح والانتصار.

فاضت روحها وآخر كلماتها: أشهد أن لا إله إلا الله....لتعلمنا أن العبد الحقيقي هو من كان كله لمولاه، فلا معبود له سواه، ولا رجاء له إلا قربه ورضاه.

ولم تنتهِ رحلة الأم المعطاء؛ فقد أستمر فيضها في ولدها عمار الذي أكمل المسيرة بوعي ووفاء، حيث نذر نفسه للإسلام بعد رحيل والديه فكان انموذجا للصبر والفداء، وهكذا صار عمار من الأصحاب الأبرار، يرافق النبي(صلى الله عليه وآله) ومن بعده الوصي علي (عليه السلام) في كل الأحوال، جنديا وفيا، ومؤمنا تقيا، لا يسبق خطوهم ولا يفارق طريقهم، حتى خُتِم له بالشهادة كما خُتِم لأبويه من قبل، فتتكلل جهود الأم بالنجاح، بعد أن يلتحق بها حاملا بشرى الفوز والفلاح، بنصرة إمام زمانه في كل ميادين الكفاح، ويجدر بنا ونحن نمر على ذكراها، أن نتعلم من سيرتها وقصة حياتها أمورا عدة نتوقف عند أهمها:

١) أن العمر ليس بسعة أيامه ولياليه، ولا بكم السنين التي تمر فيه، بل باغتنامها في الخير والعطاء، وتوظيفها في السمو والبناء.

٢) أن العقيدة تستحق التضحية والفداء، وترخص لأجلها الأعمار والأموال والابناء، وأن المحن والصعاب التي تمر بالرسالة تتغربل النفوس فيها، وتفرز على إثرها المعادن النفيسة من غيرها، ومن يخلد إسمه ويكتب على صفحات التاريخ هو ذلك الذي عرف كيف يختار، وحدد في الساعة الحرجة مع من يكون واتخذ على هدى وبصيرة في حياته أعظم قرار.

٣) ليست قوة العدو هي من تحسم نتائج المعركة بين الحق والباطل، فقد ينتصر العبد على سيده، والخادم على مولاه، متى نظر إلى قوة العقيدة التي يحملها، وفقه معنى انتماءه إلى الدين الذي يعتنقه؛ لذا لا ينبغي أن يختل توازننا عند ساعات المحنة لقلة العدد والعدة، فأكبر رصيد يحقق النصر ويحسم الأمر قوة القلب ومدى تعلقه بالحق.

٤) ليس العبرة بكم الأولاد وعددهم، فلربما كان هناك العشرات دون أثر وعطاء، وقد يكون الواحد فقط سببا في السعادة والهناء، لذا ليكن التركيز على التربية الواعية، والبناء السليم ذي الخطوات الصحيحة الراقية، التي تنتج ولدا صالحا يكون امتداد فخر لأبويه بعد الممات، وهذا ما ينبغي أن نهتم به نحن الأمهات، فخير متاع الحياة ولد صالح يدعو لنا عند انقطاع أعمالنا، وانتهاء آجالنا.

سمية بنت خياط او خباط، من صحابيات النبي (ص)، وهي أول امرأة استشهدت في الإسلام. والدة عمار بن ياسر، كانت هي وزوجها ياسر بن عامر العنسي وابناهما عمار و عبد الله من أوائل المسلمين.