أحمد حسن الزيات (1885م – 1968م) أسلوب الذاكرة المبتكر

أحمد حسن الزيات (1885م – 1968م) أسلوب الذاكرة المبتكر

عرفت أساليب العربية في العصور الحديثة فوضى كتابية لا سيما عند الشباب من الشعراء والكتاب ومتعاطي الآداب الذين نفروا من الأساليب التعبيرية التي حددتها البلاغة العربية القديمة ورسمت أطرها من خلال علوم محددة يعرفها المتخصصون ويدرسونها لكل راغب في معرفة أسس هذه الأساليب وقواعدها التي عكف عليها وأثبتها الرعيل الأول من علماء العربية.

غير أن هؤلاء الشباب لم يستطيعوا زحزحة الأساليب البلاغية القارة والثابتة مثلما لم يستطيعوا الإتيان بأساليب جديدة تقارع الأساليب الموروثة والمحفوظة داخل ذاكرة جماعية عمرها قرون طويلة حفظها الكتاب واحتذوها جيلا عن جيل أثناء تشكيلهم لتكويناتهم الأسلوبية والإبداعية من خلال الأساليب الموروثة وداخلها، لا من خلال القفز عليها ونبذها.

وإذا كان هذا الأسلوب المبتكر منطبقا على أحد من كتاب العصور الحديثة فإنه أكثر ما ينطبق على الكاتب المصري (أحمد حسن الزيات) صاحب مجلة (الرسالة) الرائدة في النهضة العربية الحديثة، والمترجم للكثير من أعلام عصره ومن الأعلام السابقين، والمتناول لقضايا وطنية وسياسية ودينية حامية الوطيس بروح عصرية وبرؤية منصفة وبأسلوب كتابي جديد يشد القارئ العربي ويذكره –بنفس الوقت- بأساليب أمراء البيان العرب في العصور السالفة.

ولد الزيات بقرية (كفر دميرة) التابع لمحافظة الدقهلية عام 1885م لأبوين من فقراء الفلاحين المستأجرين في الإراضي الزراعية المملوكة للإقطاع، وقد دخل هذا القروي المحب للتعلم معاهد الأزهر قبل الثالثة عشرة من عمره، وفي هذه المعاهد ظهرت ميوله الأدبية وطريقته في التعبير التي استرعت انتباه معلميه من أساتذة الأزهر آنذاك.

ثم عمل في التدريس الأهلي بعد تخرجه من الأزهر، فعلّم العربية في مدارس القرى والأرياف المصرية شطرا من حياته، ثم دخل مدرسة الحقوق الفرنسية بالقاهرة، وعند تخرجه منها التحق  لتدريس الأدب العربي في المدرسة الأميركية بالقاهرة سنة 1922، وقد مارس لسنوات طويلة مهنة التدريس في الجامعات والمعاهد العالية، حيث كان من الرعيل الأول من الأخوة المصريين الذين ألقوا محاضراتهم  في دار المعلمين العليا عام 1929م ببغداد التي أقام فيها ثلاث سنوات وألف واحدا من أهم كتبه المفقودة وهو (العراق كما عرفته)، وقد حفلت هذه السنوات الثلاث بالكثير من العطاء الفكري وبالتأثير الواضح الذي تركته هذه الإقامة على الحياة الثقافية والأدبية في بلاد الرافدين.

وقد كانت تجربة الزيات في الأزهر من التجارب التي ساهمت في تكوينه النفسي والثقافي لاحقا، حيث تلك المرحلة المهمة من حياته التي أمضاها في الأزهر تلميذا على يدي شيوخ العربية –آنذاك- كمحمد عبدة شارح نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) والشيخ المرصفي، وإلى جنبه على مقاعد الدرس العباقرة طه حسين والزناتي وغيرهما ممن عرفوا برغبتهم في تجديد مناهج الأزهر وتجديد أساليب التعبير عند شيوخه، فيقول عن تلك المرحلة : ( كنا ننتقل من حلقة العلم إلى درس الأدب ومن درس الأدب إلى مجلس الشعر، إلى دار الكتب، ومن دار الكتب إلى الجامعة المصرية القديمة، ومنها إلى إدارات الصحف، نعرض عليها ما كنا نسميه-يومئذ- شعرا، ثم نعود إلى الأزهر فنجد الاختلاف شديدا بين حياته وحياة الناس، فنقلق ونثور ويكون حظ هذا القلق وهذه الثورة على الأزهر المنعزل عن العالم، والسخر من الطلاب والعبث بالجاهلين في شؤون الأدب) .

وقد عرف عن الأديب الزيات اتقانه للأساليب العربية في البيان وقدرته على مجاراة أساليب القدماء المعروفة بالثبات والاستقرار الصياغي، ثم التنويع على تلك الأساليب والتجديد في الألفاظ والمعاني قدر المستطاع من خلال إدراكه على مستوى النظر والتطبيق بأن الاختلافات في الأداء والتعبير اللغوي تعود في الأصل إلى اختلاف المواقف نفسها.

ولذلك فقد ترك الزيات اثرا واضحا على الادب العربي من خلال مجموعة كبيرة من الكتب المهمة التي كانت لها قيمتها الكبيرة في نفوس الكتاب والمهتمين بشؤون الادب والتعبير، ومن هذه الكتب مثلا، تاريخ الادب العربي سنة 1916م، وكتاب في أصول الادب وهو عبارة عن محاضراته التي القاها في بغداد وجمعها مطبوعة في القاهرة سنة 1932م وكتاب دفاع عن البلاغة سنة 1945م وفيه يدعو الى أسلوب ادبي يذكر بالأدب العربي الكلاسيكي الموجود عند امراء البيان العربي الاوائل مطعما بالأساليب الحديثة التي اخذتها العربية نتيجة احتكاكها عن طريق الترجمة بالروائع الادبية الاوربية عامة وخاصة الفرنسية التي نقل الزيات منها الى العربية اعمالا مهمة .

غير أن أسلوب الزيات، وهو أحد أهم الأساليب الأربعة في عصر النهضة العربي، بالإضافة إلى الرافعي وطه حسين والعقاد، امتاز بالتوازن في تنويعه بين الأصالة والمعاصرة دون أن يفرط بأحد طرفي المعادلة المتستدعية بساطةً التعبير من خلال وضوح المعنى، وتوسعُا في مذاهب العربية غير مقتصر على تقليد أساليب القدامى، ومراعاةً لجدة الألفاظ وتناسب موسيقاها وحيويتها على وَفق طبيعة اللغة وأوزانها وقواعدها وقياساتها، وكدّا كتابيا يعاود النظر والتنقيح  وينكر السهولة و الاسترسال اللفظي ، ويحتفل بالمجاز أيما احتفال.

وبالانتخاب الذواق للكلمة، وبالاستعمال المراعي لتوظيفها توظيفا فنيا سيكتسب الأسلوب اصالته وجدته لأنه سيكون –حينئذ- صادرا عن ذهن متوقد وعن روح وثّاب لا عن ذاكرة صدئة، ولكونه يمتح من النفس لا من الآخرين، ويصور بالأصيل المبتكر لا بالسوقي المبتذل.

د. علي ياسين