إشراقات من دراسات في تأريخ جنوب العراق.. مدينة سوق الشيوخ أنموذجاً

الباحث: صباح محسن كاظم

سحر المكان يتشكل في اللاوعي، وبمخزون الذاكرة، وتأريخ الوجود الإنسانيّ، فالجذور تربطنا بدهشة وجودنا الأول حتى وإن شرقنا وغربنا والخيال يسرح نحو عبق طفولة المكان، ولكل مدينة أثرها، ومميزاتها، ومناقبها، ووظيفتها.. فمدن الموانيء.. والمدن الدينية المقدسة.. والمدن الزراعية.. والمدن الثقافية وهلمّ جّراً.

ان عبق وأريج وضوء تلك المدن يُشكل الوعيّ البيئيّ لدى من يقطنها، وتربطه بحبلها المشيميّ.. وللأمكنة الساحرة دروبها، وأزقتها، وأسواقها، ورموزها، لذلك تمكث بالمخيلة، ويُستمد منها الخصال التي تتوسم بسكانها، والبيئة حافز ومولد ذو تأثّر بالأنثروبولوجيا الاجتماعية بكل النواحي، وإفرازتها وطبائعها.. فبيئة الجود والكرم تُنتج أجيالاً تقدم المآثر، وبيئة الوعي تُنتج الثقافة الحقيقية التي تُساهم بصناعة الجمال، وبيئة الصحراء تُنتج مخرجات خاصة تُطبع علاقات البشر بالتعامل المُختلف.

والتنوع البيئي العراقي أنتج لنا مُدّناً  لها سمات يَفخر بها من ينتسب لها، ومنها مدينة (سوق الشيوخ ) فمدن التأريخ والحضارة ومدن الريادة الأولى في البشرية ومدن النخيل وحافات الأهوار، قدمت للعراق ما قدمت  من نوابغ العلم.. والشعر.. والفن.. والثقافة.. والفروسية.

ومدينة (سوق الشيوخ) بيئة ثقافية بامتياز، فهي مدينة شعر وأدب، بسبب كثرة المضايف والدواوين التي يجتمع بها الحكماء من العلماء والشيوخ وسكان المنطقة، مدينة تعشق الإمام الحسين -عليه السلام- ولم يثنها بطش الدكتاتورية والنظام البعثي القمعي عن تأدية طقوس الولاء الحسيني في أزمنة القهر، ما من زقاق إلا ويُقيم المآتم الحسينية دون خوف من وحشية السلطة الغاشمة، حتى إن المنع للمسير لزيارة الإمام الحسين في الأربعينية لم يجعلهم يرضخوا لبطش وسطوة القتله، كانوا يتخطوا الصعاب بالإلتفاف بالطرق الصحراوية، والبساتين للوصول للعشق الروحي الحسينيّ، وحين إنطلقت فتوى المرجعية الرشيدة والحكيمة توافد الآلاف من أبناء الجنوب وسوق الشيوخ والأهوار للدفاع عن العراق، وقدموا أغلى الدماء  فهم أحفاد أصحاب الرايات في ثورة العشرين الخالدة، لن يقبلوا على الضيم أبدا، حتى أن جميع من أرخ لتأريخ العراق يؤكد ما ذكرته، خذ مثلاً حنا بطاطو بدراسته لتأريخ العراق يؤكد: أن الناصرية مدينة تعشق الحرية، لذا نرى قوافل الشهداء بكل حرب يخوضها العراق منذ قرن وقودها هؤلاء الأبطال ..

في كتاب الدكتور "عماد الموسوي" (دراسات في تاريخ مدينة سوق الشيوخ الحديث والمعاصر) الصادر عن دار الفيحاء / 2017  /ب 192 صفحة / بطبعته الأولى، يُعد إضافة جديدة لما كُتب من مؤلفات صادرة عن سوق الشيوخ من مؤرخين.. وأدباء.. وكتاب أرشفوا لهذه المدينة الغافية على نهر الفرات بهدوء ووداعة وسلام.. والتي تطوقها غابات النخيل الكثيفة، وأجواء الأهوار المكتظة بالطيور، وتربية الجاموس، والنقاء البيئي في حضرة الماء والقصب.. مدينة سوق الشيوخ وتخومها قدمت للأمة أبرز علمائها أسيد حيدر صاحب موسوعة الإمام جعفر الصادق –عليه السلام- والمذاهب الأربعة وغيرها من المؤلفات عن النهضة الحسينية قبل أكثر من 80 عاماً .. والعلامة والشاعر المجاهد  "مصطفى جمال الدين " والعلامة والأديب جميل حيدر.. فضلاً عن مئات الشعراء والأدباء والمبدعين الذين يتواجدون بداخل وخارج الوطن .

لقد كتب كثير من الرسائل الجامعية بالماجستير والدكتوراه عن سوق الشيوخ والأهوار والآثار باعتبار المنطقة مهد الحضارة البشرية.. وكتب من العلماء والكتاب السيد طاهر آل عكلة في كتابه المهم والثري والعميق والشامل (النجف الثانية سوق الشيوخ حاضرة العلم والأدب نشأتها وتطورها أسرها العلمية ونهضتها الأدبية) كما صدرت كتب قبل ذلك وبعده، للأديب فاضل الغزي (سوق الشيوخ مجرى نهر وذاكرة مكان) وكذلك أرشف الكاتب "صباح غميس الحمداني" لأسر وأمكنة وعشائر سوق الشيوخ فيما أجاد الأديب "حسن الشنون " بكتابه عن أدباء سوق الشيوخ ..

يأتي كتاب الدكتور "عماد الموسوي"  بخمسة فصول، تناول الأول: سوق الشيوخ بكتابات الرحالة  الأجانب 1761- 1920  في الفصل عدة محاور جغرافية المكان، والوقائع التأريخية عند السيطرة العثمانية ثم البريطانية؛ فيما تناول بالفصل الثاني  هجرة العوائل النجدية إلى سوق الشيوخ  وتأسيسهم محلة النجادة، وتأسيس الخميسية، فيما تطرق "المؤلف" بفصله الثالث لقضايا عديدة مثل سوق الشيوخ خلال الاحتلال البريطاني 1914-1918 والأحداث التي رافقت تلك الحرب، وتأثيراتها وظلالها على المنطقة، فيما كرس فصله الرابع لدراسة وجود الطائفة المندائية، طقوسهم، أبرز شخصياته، علاقتهم بالمجتمع.. فيما بحث بفصله الأخير –الخامس- تطور الصحة والتعليم  والمدارس بسوق الشيوخ، وقد قدم "المؤلف" ندوة بالكتاب عند توقيعه بديوان الشاعر "ماجد السفاح " وقد ناقش الحضور فصول الكتاب، بآراء وأفكار مهمة جداً تضيء الزوايا التي غفلها المؤلف وتنفعه بالإضافة إلى طبعاته الجديدة..

وجدتُ بقراءة الكتاب الدقيقة هنات تصوب بالطبعات القادمة، بالطبع كتابة التأريخ شاقة، وتحتاج الدقة،  والموضوعية بالسرد، والقدرة على تحليل الأحداث، لكنها محاولة جادة في توثيق الأمكنة، والمدن يذكر السيد الدكتور عماد الموسوي في ص20 (...ويبدو إن مدينة سوق الشيوخ كانت في تطور مستمر بعد تأسيسها ويدل على ذلك ما ذكره الرحالة الانكليزي جاكسون  الذي زارها عام 1797 أثناء رحلته من بغداد الى البصرة فقد وصفها بالمدينة الكبيرة وذلك بالقول ((وعند حلول مساء يوم الأربعاء 28 حزيران 1797 بلغنا مدينة كبيرة جدا على الضفة اليمنى من نهر الفرات تدعى سوق الشيوخ...)).

لقد أبحر بنا المؤلف برحلة مشوقة لمدينة اختصت بالجهاد وتقديم الأدباء..  في ص 50 :  (تأتي التجارة في المرتبة الثانية بعد الزراعة من حيث التصنيف  الرئيس للمهن التي كان يعمل بها أبناء مدينة سوق الشيوخ، وشكلت موردا رئيسا يضاف إلى ما تدره الأرض من إنتاج زراعي...) حياة مليئة بإشراقات التأريخ المنسي، التأريخ المسكوت عنه  للمدن المجاهدة، بسبب سياسة الإقصاء والتهميش لمدن الموالاة لآل محمد بكل الأزمنة،  يؤكد  د. عماد  في ص 159  عن التعليم  والكتاتيب (( تكمن أهمية هذه الكتاتيب في تعليم الأطفال القراءة والكتابة ومباديء الإسلام، حيث يقوم بالتدريس في كل حي أو محلة معلم واحد أو ما يطلق عليه بـ (ملّا) في اغلب الأحيان، ويكون حافظاً للقرآن الكريم وملماً ببعض الأعمال الحسابية الأولية إلى جانب القراءة والكتابة...).

تأريخ من شذى الإقحوان لمدن عطرت الوجود بما قدمت من موروث فكريّ وأدبيّ وسجايا الجود والكرم، فسحة الحرية جعلت الأقلام مُشرعة لكتابة تلك المدونات التي تُذكّر الأجيال بماضيها الذي يعبق بضوع عطر تأريخ الآباء ..