محمد مهدي الجواهري.. الشاهد! (1899-1997)

الدكتور: علي ياسين

يجمع نقاد الأدب ومؤرّخو روائع الشعر العربي - قديمه وحديثه - على أن زعامة الشعر تعطّلت وأن عرشه ظلّ خاويا بعد رحيل شاعر العربيّة الأول أبي الطيب المتنبي إلى أن لاحت في أفق النجف الأشرف وفي (كوفاه) مدينة أبي الطيب في 26/ تموز/ 1899م شمسُ شاعر جديد استطاع أن يعيد للقصيدة العربيّة أجواءها وتراكيبها وجزالتها التي عرفتها في عصور سموها وألقها الأولى، حتى قال في ذلك أحدهم عبارته المشهورة: (لا شاعر بين المتنبي والجواهري!).

ينحدر محمد مهدي محمد الجواهري من أسرة نجفيّة عريقة ترجع إلى عائلة (آل الجواهري) التي اكتسبت هذا اللقب بسبب كتاب ألّفه أحد أسلافها، وهو المرحوم (الشيخ محمد حسن) صاحب مؤلَّف (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام)، وقد تعلّم شاعرنا في كتاتيب النجف وقرأ القرآن والنحو والصرف وحفظ خطب نهج البلاغة على يد أشهر شيوخ النجف - آنذاك - مظهِراً ميلاً لافتاً للأدب والكتابة ونظم الشعر الذي أبدع فيه وأجاد منذ صباه الباكر.

تقلّدَ الجواهري أعمالاً كثيرة متنقلاً بين العمل في البلاط الملكي وبين التعليم وبين الصحافة التي كان أحد فرسانها في عهد العراق الملكي من خلال إشرافه وتحريره للعديد من الإصدارات والصحف الدورية المعروفة، وقد تركت خبرته الشخصيّة والحياتيّة هذه أثرها في شعره الذي ظهرت أولى مجموعاته (حلية الأدب) في عشرينيات القرن الماضي ثم تبعها مؤلّفه (بين الشعور والعاطفة) فـ(ديوان الجواهري) عام 1935م ليستمر عطاؤه الإبداعي والكتابي حتى وفاته ودفنه في دمشق بسوريا عام 1997م.

في ريعان شبابه كان الجواهري قد تربّع على عرش مدرسة (البعث والإحياء) الشعريّة التي حاولت استحياء القيمة الفنية والتعبيرية للشعر في عصوره المبكرة، وقد تتوّج تربُعه بشكل رسمي بعد رحيل شعراء هذه المدرسة الكبار كمحمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم والرصافي والزهاوي وغيرهم، جامعا في شعره بين ألق المتنبي وصناعة أبي تمام وصياغة البحتري وسخرية أبي العلاء المعري، على أنّه لم يكتف بالاغتراف من معين الأصالة التي نهل مواردها من الشعراء القدامى، وإنما سعى إلى أن يكون شاعرا معاصرا يعبّر عن واقع أمة تحاول أن تثبت جدارتها بين الأمم، واجتهد ليكون منتميا -شعريا وفكريّا- إلى اللحظة الراهنة وأحداثها الدراماتيكيّة المتتابعة من خلال استيعابه لمستجدات العصر و لغته و إيقاعاته و موضوعاته و تراكيبه المتغيرة  قياسا إلى سياقات الشكل الشعري الموروث.

كان الجواهري رغم غربته الإجبارية والطويلة أكثر شعراء العرب إقامة في قلب عصره و في حياة وطنه يؤازره في ذلك عمرٌ مديد اقترب من قرن كامل، كما كان أكثر مجايليه من الشعراء تفاعلا مع الأحداث الكبرى التي عصفت بالأمة ابتداء من رحيل المحتل العثماني ودخول المحتل الإنجليزي مرورا بنكبة فلسطين وانتهاء بالمنعطفات السياسية الخطيرة التي عرفها بلده العراق بعد ثورة تموز 1958م وانتقال البلد من العهد الملكي الإقطاعي إلى العهد الجمهوري وما تبع ذلك من أحداث وتطورات أفضت بالبلد إلى دكتاتورية عسكريّة مقيتة مع مجيء العام 1979م، وهو ما دعا الجواهري كي يقرر الرحيل مفضّلا حياة الغربة على الحياة في بلد بلا حريّة وبلا أمل!

 و لذا، أمكن لمن يضطلع بمتابعة شعر الجواهري أن يتابع من خلال ديوانه المطبوع طبعات عديدة أبرز منعطفات العراق و العالم العربي و أهم أحداثه ووقائعه التي دوّنها أو تحدّث عنها أو عبّر عن موقفه الفكري والإنساني منها، وكأنه بذلك يستعيد سيرة أبيه الشعرية وابن كوفته الحمراء (أبي الطيب المتنبي) فاتحا الأبواب لكل قراءة نقدية تمزج بين السيري الذاتي والشعري لترصد الاستجابات والانفعالات والنجاحات والاخفاقات التي ابداها شاعرٌ مفلق ومنفعلٌ كبير بالأحداث من حوله بمستوى الجواهري.

وبما أن الجواهري يرى أن الشعر و الأدب لصيقان بالآلام الثقال و قرينان بها، كما يثبت ذلك في حواراته الصحفية وفي مذكراته المنشورة، لذا جاء أغلب شعره تعبيرا عن معاناته الطويلة وعن آلامه للمصير المجهول الذي ينتظر أمته وشعبه على يد حفنة من الطغاة والظالمين، فهو السياسي الذي لم ينتم إلى حزب، وهو الثوري الذي يطأ الطغاة بنعله، وهو المؤمن بالحسين الشهيد الثائر، وهو المتمرد الذي ظل يحمل صليبه في منفاه نصف قرن من الزمان، وهو الشاهد على عصر عاشه ورآه فرفضه بكل إباء إنساني، وهو القائل مخاطبا الزهاوي:

وكنت على خِصب العراقي شاهداً         إذا أعوزتنا في التباهي الشواهدُ