عوامل تخلف المسلمين

دراسة رأي الفريق الأول: والذي يرى تقليدا لسيده الغربي ان مشكلة تخلف المسلمين تكمن في اتباعهم لعقيدتهم والتزامهم بالدين.

ونحن نعتقد ان هذا الاتجاه يبتني على مجموعة من نقاط الضعف نقوم بتشريحها تباعاً:

النقطة الأولى: عدم التحلّي بالموضوعية

ان أهم عنصر في التقييم الموضوعي أن يتجرد البحث عن التعصب الأعمى ويتجنب الأحكام القبلية المسبقة، ويرى الأمور بروح التحليل الموضوعي وبعين الانصاف. وهذه الجماعة تفتقر الى أدنى مقومات الانصاف والروح الموضوعية. ولا يمكنني ان أتصور ان من ينكر فضل المسلمين على العلوم الإنسانية نتيجة التعصب الأعمى ــ  علماً انه قد أقر بهذا الأمر العلماء المنصفون في الغرب ـ كيف يتسنى له ان يقيم سبب تخلف الأمة الإسلامية؟

وكمثال على هؤلاء العلماء المنصفين نرى كلاماً لـ (برتراند رسل) حول هذا الأمر:

... لكن الغرب يدين للعرب بقدر كبير من معرفته باليونانيين، وهي المعرفة التي نقلها الى أوربا مفكرون مسلمون وخاصة عن طريق إسبانيا.

ويقول ويل ويريل ديورانت في قصة الحضارة ــ بعد أن يتعرض الى حركة الترجمة للكتب من التراث الإسلامي عبر عدة لغات حتى وصلت الى الاسبانية مروراً بالعبرية واللاتينية ــ وهكذا:

أما التيار الرئيسي الذي صب به تيار الثروة الفكرية الإسلامية في العالم الغربي فكان عن طريق ترجمة الكتب العربية الى اللغة اللاتينية.

 فقد ترجم قسطنطين الأغريقي حوالي عام 1060 الى اللغة اللاتينية. كتاب الاختيار للرازي وكتب إسحاق يوديوس في الطب، وترجمة حنين العربية لأمثال أبقراط وشرح جالينوس. وجمع ريمند (1130) المستنير المتسامح كبير أساقفة طليطلة بعد استردادها من المسلمين طائفة من المترجمين برياسة دمنيكو جنديسلفي، وعهد اليهم ترجمة الكتب العربية في العلوم الطبيعية والفلسفية.

 وكان معظم هؤلاء المترجمين من اليهود الذين يعرفون اللغات العربية، والعبرية، والإسبانية، بالإضافة الى اللاتينية في بعض الأحيان، وكان أكثر هذه الفئة نشاطاً أحد اليهود المتنصرين يدعى حنا الإسباني (أو الاشبيلي)، وقد ترجم حنا هذا مكتبة جمة من مؤلفات ابن سينا، والغزالي، والفارابي، والخوارزمي عن أصولها العربية أو عن تراجمها اليهودية. وأدخل بترجمته لكتاب الخوارزمي الأرقام الهندية ــ العربية في بلاد الغرب. وكانت بعض الكتب تترجم من العربية الى اللاتينية مباشرة، وبعضها يترجم الى القشتالية ثم يترجمها غنديسلوي الى اللاتينية.

وكانت هناك روافد أخرى تغذي هذا التيار اللاتيني العربي. من ذلك أن عالماً من باث يدعى أبلار تعلم العربية، وهو الذي أدخل حساب المثلثات من بلاد المسلمين الى الغرب بترجمته أزياخ الخوارزمي.

في عام 1141قام بطرس الموقر رئيس دير كلوني، وثلاثة من العلماء المسيحيين، يساعدهم أحد علماء العرب بترجمة القرآن الكريم الى اللغة اللاتينية. ودخل علم الكيمياء الكاذبة العالم اللاتيني بترجمة ربرت من أهل تشتر أحد الكتب العربية في عام 1144

ويقول في خاتمة المطاف عن حركة الترجمة من العالم الإسلامي الى اوربا :

وقد أحدثت هذه التراجم كلها في اوربا اللاتينية ثورة عظيمة الخطر، ذلك أن تدفق النصوص العلمية من بلاد الإسلام واليونان كان له أعمق الأثر في استنارة العلماء الذين بدأوا يستيقظون من سباتهم وكان لابد أن تحدث تطورات جديدة في النحو وفقه اللغة ووسعت نطاق المناهج الدراسية، وأسهمت بنصيب في نشأة الجامعات ونمائها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وكان عجز المترجمين عن أن يجدوا مفردات لاتينية تؤدي المعاني التي يريدون نقلها الى اللغة هو الذي أدى الى دخول كثير من الألفاظ العربية في اللغات الاوربية؛ ولم يكن هذا أكثر من حادث عارض في أعمال الترجمة، ولكن أهم من هذا أن الجبر، وعلامة الصفر، والنظام العشري في الحساب قد دخلت كلها في بلاد الغرب المسيحية بفضل هذه التراجم، وأن الطب من ناحيته النظرية والعملية تقدم تقدماً عظيماً بفضل ما قام به العلماء المترجمون اليونان، واللاتين، والعرب، واليهود. وأن ما كان لعلم الهيئة اليوناني والعربي من شأن خطير قد احدث، وكان لا بد ان يحدث، توسعاً في علوم الدين، وفي تعديل أفكار العلماء عن الإله، وكان ذلك إِرهاصاً بتغيير في هذه الناحية أوسع مدى جاء بعد عهد كوبرنيك.

 وان في إشارات روجر بيكن المتكررة لابن رشد، وابن سينا، والفارابي لدليل على ما كان لهؤلاء العلماء من تأثير وحافز جديد.

 وفي ذلك يقول روجر بيكن نفسه: "لقد جاءت إلينا الفلسفة من العرب"، وسنرى إن الذي دعا تومس أكويناس لتأليف كتابه الجامع في اللاهوت هو ان يحول دون تسرب التفاسير العربية لأرسطو إلى علوم الدين المسيحية.

وهكذا رد الإسلام إلى أوربا ما أخذه عن اليونان بطريق بلاد الشام؛ وكما أن هذه العلوم كانت بداية ذلك العصر العظيم عصر العلوم والفلسفة العربية، كذلك أثارت هذه التراجم عقل أوربا وحفزته إلى البحث والتفكير، وأرغمته على أن يشيد ذلك الصرح العقلي الخطير صرح الفلسفة المدرسية، وان ينقض ذلك الصرح الفخم حجراً بعد حجر، فينهار بذلك نظام العصور الوسطى الفلسفي في القرن الرابع عشر، وتبدأ الفلسفة الحديثة في غمرة التحمس العظيم أثناء عصر النهضة.

المصدر: كتاب عوامل تخلف المسلمين/ الشيخ علي الحكيم