نهر الحسينية (السليماني) شريان الطبيعة في المدينة المقدسة

تقرير: صباح الطالقاني

شهد عام 1534م دخول العثمانيين الى العراق تحت راية السلطان سليمان القانوني، عاشِر السلاطين العثمانيين، الذي لُقّب بـ القانوني لأنه أدخل إصلاحات قضائية تهم المجتمع والتعليم والجباية والقانون الجنائي، وحددت هذه القوانين شكل الإمبراطورية لقرون عدّة بعد وفاته...

وتشير المصادر التاريخية الى انه في نفس السنة آنفة الذكر قام سليمان القانوني بحفر فرع من الفرات سمّي (النهر السليماني) وأصبح فيما بعد نهر الحسينية الحالي، الذي يعد شريان الطبيعة في المدينة المقدسة كربلاء.

ويوازي نهر الحسينية نهر الفرات لمسافة بضعة كيلومترات، ثم يرفدهُ فرع آخر فُتح فيما بعد من الفرات، ليبتعد في حركة ملتوية حول القرى والأرياف التي يمر بها باتجاه الجنوب الغربي، نزولاً الى منطقة الحسينية ثم مدينة كربلاء التي يغطي جهتها الشمالية تماماً.

وجاء في كتاب (تراث كربلاء) للمؤرخ سلمان هادي آل طعمة، تعليق للمؤرخ لونكريك في كتابه (أربعة قرون من تاريخ العراق)" ان السلطان سليمان كانت يروم زيارة العتبات المقدسة في الفرات الأوسط، وأن يفعل هناك أكثر مما فعله الزائر الصفوي في العهد الأخير، فوجدَ مدينة كربلاء المقدسة بين المحل (العطش) والطغيان (الفيضان) إذ كان الفرات يفيض في الربيع فيغمر المناطق حول البلدة بأجمعها، وعند هبوط النهر كانت عشرات الألوف من الزوار يعتمدون على الاستسقاء من آبار شحيحة، وجاءت من هنا فكرة شق هذه القناة الإروائية".

وقد ازدهرت بساتين وأراضِ خصبة على جانبي نهر الحسينية، ساهمت في نشوء مزارع ضخمة ومحاصيل متنوعة من الخضار والفواكه، ألقت بظلّها الايجابي على الحالة المعيشية ودفعت بعجلة الاقتصاد المحلي للمدينة الى مراحل جيدة.

يقول المزارع حسن محسن" معيشتنا على ضفاف نهر الحسينية تمثل امتداداً لمعيشة آبائنا وأجدادنا الذين هيئوا هذه الأراضي الشاسعة وزرعوها بمختلف أصناف النخيل والفواكه والخضار، حيث تتميز البساتين هنا في انتاج أصناف رائعة قلّ نضيرها في العراق من التمور والفواكه.

ويؤكد حسن وهو أب لعائلة مكوّنة من ستة أفراد" هناك إقبال كبير جداً على النوعيات التي تُطرح من هذه البساتين بسبب عدم اعتمادنا على المواد الكيماوية، التي يمكن أن توفر انتاج اكبر لكن على حساب النوعية الأصلية الآمنة صحياً، ذات النكهة المرغوبة في السوق".

ويتأسف حسن" في السنوات الأخيرة بدأت الامراض الزراعية والحشرات تهاجم مزروعاتنا بشكل غير مسبوق وهذا الأمر أثر كثيراً على جودة هذه المحاصيل وكمياتها، وخاصة التمر والبرتقال والمشمش..." متمنياً ان يصل صوته الى" الجهات المعنية لتقديم الدعم للمزارعين او القيام بحملات لمكافحة هذه الامراض والحشرات."

يُذكر أن مديرية الزراعة في كربلاء قامت بحملة واسعة لمكافحة عنكبوت الغبار شملت 3200 دونم من بساتين النخيل، وتُعد آفة عنكبوت أو حلَم الغبار من الآفات الاقتصادية التي تصيب أشجار النخيل نتيجة تغذّي الأطوار الضارة من الحشرة على عصارة السعف والثمار في مرحلتي الجمري و الخلال، حيث يمتلك الحلم فكوك أبرية يقوم بغرزها في قشرة الثمرة ويعمل على تخريبها، والتأثير الأشد ضرراً هو إفراز نسيج عنكبوتي حول العذوق يمنع الثمار من النمو، فلا تصل إلى مرحلة النضج وبذلك لا تصلح للاستهلاك البشري.

وشهدت ضِفاف نهر الحسينية نشوء حِرف ومِهن وأعمال متعددة على مدى القرنين الماضيين، مثل صيد السمك والصناعات التراثية وصناعة سعف النخيل وتربية الحيوانات والرعي...

ويقول (محمد امين) ان صيد السمك ونصب أقفاص تربية السمك في نهر الحسينية هي مصدر معيشتنا وتمثل ذات الحال لمئات العوائل التي تسكن بجوار النهر، حيث نشتري الأسماك المعدّة للإكثار (صُبيعيات) من مكاتب خاصة بهذا الامر ونضعها في هذه الأقفاص العائمة على ضفة النهر ونعمل على رعايتها لمدة من شهر الى شهرين، لتبلغ أحجام مختلفة ثم نبيعها الى مكاتب البيع الرئيسية ا والى عملاء مرتبطين بنا".

مؤكداً" ان هذه العملية تتطلب جهوداً مضنية وتغذية مستمرة ورعاية طبية ومراقبة على امتداد الليل والنهار، حيث تتعرض الأسماك في طور نموها الى عدّة أمراض يجب الحذر منها ومعالجتها فور ظهورها وإلا كانت الخسارة أمر لا مفر منه.."

وبالقرب من أقفاص السمك تلك، انتشرت قطعان من البقر والجاموس التي ترعى في مساحات مقطعة بانتظام تمثلُ الاراضي المملوكة للعوائل التي تسكن على ضفاف النهر..

وتكمن أهمية نهر الحسينية بأنه المصدر الرئيسي لمياه الشرب والسقي، على امتداد مصبّهِ والى نهايته في أطراف مدينة كربلاء الغربية.

الوثائق العثمانية التي حصل عليها مركز الاعلام الدولي في العتبة الحسينية المقدسة حصرياً، من دار الأرشيف العثماني التابع لرئاسة الوزراء التركية، تشير الى أن نهر الحسينية قد تعرّض الى الطمر وطغيان الماء وغرق البساتين مرات عديدة.

وجاء في إحدى الوثائق التي قام بترجمتها اختصاصي اللغة العثمانية الأستاذ الدكتور أمير الخالدي، والموجّهة الى ولاية بغداد في العام 1308 هجرية: " حسب طلب السيد جعفر الطباطبائي (خادم العتبة الحسينية المطهرة) وجماعته الخاص بوجوب حفر وتنظيف نهر الحسينية في كربلاء وفق المذكرة المؤرخة في 18 تشرين ثاني 1308 هجرية، سعادة (الباد شاه) ان نهر الحسينية المتفرّع من شط الفرات، منذ 15 سنة لم تجري عليه عمليات الكري والتنظيف، مما أدى الى طغيان النهر وغرق الكثير من البساتين المحيطة بعد ارتفاع مياه شط الفرات، لذلك نطلب من مقام الدولة العالي إجراء عمليات الكري والتنظيف، علمًا أن طول النهر (18000) متراً وعرضه 30 متراً، وأن بعض المناطق من النهر أصبح عمقها لا يتجاوز النصف متر، وتحتاج الى تعميق، وحسب طلب أهالي ووجهاء المنطقة بوجوب إسعاف طلبهم بكري النهر لإنقاذ البساتين من الغرق. مع دعواتنا لكم بالموفقية". انتهى.