مُسنّون.. بين متطلبات بسيطة وواقع صعب

المسنّون هم ذخيرة الخبرة ومستودع البركة والعطاء المتجدد، ورمز التضحية والايثار، وهُم الذين يتحتم علينا رعايتهم وإظهار المودّة لهم بعد أن بلغوا من العمر عتيّا.

فمع تقدم العمر، يعاني المسِن من أعراض نفسية، وقد يكون أكثر ميلاً للعزلة وعرضة للاكتئاب، لذا يحتاج الى رعاية واهتمام سواء من الأسرة او عموم المجتمع والمؤسسات الحكومية.

ولكي نتعرف على كيفية التعامل مع كبار السن ومعايشتهم، وما هي الأساليب الصائبة للتعامل معهم، أجرت مجلة (الروضة الحسينية) التحقيق التالي.

.....................................................

التقيت الاستشاري في الإرشاد النفسي الدكتور عبد عون عبود جعفر الذي بدا جاداً في عمله وهو ايضاً رئيس قسم الارشاد النفسي في كلية التربية المفتوحة، تحدث قائلاً" لا تعتبر مرحلة كبار السن او الشيخوخة مرحلة مرضيّة كما يعتقد البعض، بل هي مرحلة  طبيعية مكمّلة لمراحل الانسان، فهناك الطفولة والمراهقة والشباب ثم الكهولة او الشيخوخة، ويطلق على الانسان لقب كبير السن او الشيخ، في اشارة الى بلوغ الشخص سن الشيخوخة والذي حددته مؤسسة الصحة العالمية عام 1972 بحدود 65 عاماً.

ويصِف د. عبد عون الشيخوخة "بمرحلة الهدم" فما يتعرض له المُسن في هذا العمر من هدم في خلايا الجسم والأعضاء المختلفة ونقص الكولاجين، الذي تقل قدرة جسم الانسان على إنتاجه بمعدل 1.5% سنوياً بعد سن الخامسة والعشرين، لينقص بشكل كبير مع تقدم العمر، مما يؤثر سلباً في قدرة الجسم على اصلاح وتجديد نفسه، ويتسبب نهايةً  في حدوث تغيرات في المظهر والمرونة، والقوة والوظائف، وكل ذلك كفيل بأن يجعل المُسن اتكالياً ويحتاج الى من يساعده ويخفف عنه.

ويضيف" ان اكثر الخلايا المعرضة للتلف لدى كبار السن هي خلايا المخ، لذلك يصاب عدد كبير منهم بالخرف او الزهايمر وعدم التركيز، وتعتبر هذه من الظواهر الجسدية لدى المسن، بالإضافة الى الظواهر النفسية التي تصيبه، عندما تظهر لديه عدم الرغبة في كثير من الأشياء التي كان يقوم بها، فالمُسن في مرحلة تشبه مرحلة فض الاشتباك مع الحياة، بعد أن كان يتصارع معها من اجل أهداف او تطلعات .

مبيّناً" ان كبير السن لا يحتاج  رعاية في الغذاء والسكن فقط وإن كانت هذه الرعاية مهمة إلا أن هناك شيء آخر مهم وهو أن يتواجد ذويه بجانبه لدعمه جسدياً ونفسياً، فالمُسن اكثر مَن يشعر بالوحدة من غيره".

مبادئ لرعاية كبار السن 

تشكّل رعاية المسنين والاهتمام بهم أمراً غاية في الأهمية، فهذه الفئة التي أفنت حياتها بالعطاء والتضحية تستحق الاحترام والامتنان والرعاية من خلال خدمتهم على أكمل وجه، وتقديم التسهيلات وتوفير الإمكانيات اللازمة لهم، وفي هذا الإطار، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عن أهمية الرعاية وضمان حقوق كبار السن، وأطلقت منذ العام 1991، وثيقة مبادئ تتعلّق بهم، شدّدت عبرها على مبدأ (الاستقلالية) معتبرة أنّه من حق كبار السن الحصول على ما يكفي من الغذاء والماء والمأوى والملبس والرعاية الصحية وإمكانية ممارسة العمل بأجر والحصول على التعليم والتدريب.

الوثيقة شددّت على مبدأ "المشاركة" أي وجوب أنْ يشارك كبار السن بنشاط في صوغ وتنفيذ السياسات التي تؤثّر مباشرة في رفاههم، وأنْ يقدّموا إلى الأجيال الشابة معارفهم ومهاراتهم، وأنْ يكونوا قادرين على تشكيل الحركات أو الرابطات الخاصة بهم، معربة عن أهمية مبدأ "الرعاية" من خلال توفير فرص الاستفادة من الرعاية الأسرية والصحية لكبار السن، وأنْ يتمكّنوا من التمتع بحقوق الإنسان والحريات الأساسية عند إقامتهم في مأوى ومرفق للرعاية أو للعلاج.

وانطلاقا من مبدأ "تحقيق الذات" وتمكين كبار السن من التماس فرص التنمية الكاملة لإمكاناتهم من خلال إتاحة إمكانية استفادتهم من موارد المجتمع التعليمية والثقافية والروحية والترويحية، عرضت لمبدأ "الكرامة" المتمثّل بتمكين كبار السن من العيش في كنف الكرامة والأمن، دون الخضوع لأي استغلال أو سوء معاملة جسدية أو عقلية..

أرقام ومعوقات في دار المسنّين

تقول الحقوقية احتشام الهر، مدير دار رعاية المسنّين  في كربلاء والتابع الى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية" يوجد في هذه الدار 49 مسناً حيث يبلغ عدد النساء 25  فيما يبلغ عدد الرجال 24 مقيمون في الدار، يتم قبول النساء بعمر 55 عاماً فيما يبلغ معدل قبول الرجال في دار الرعاية بعمر 60 عاماً ويشترط خلوّه من الأمراض السارية وضعف حالته المعيشية بالإضافة الى كونه لا يملك المعيل".

و احتشام، التي تتفانى في عملها الإنساني منذ اكثر من 15 سنة وهي تشغل منصب مدير دار رعاية المسنين بشكل مهني، أصبحت اليوم معيلاً للمقيمين من كبار السن والعجزة في جميع مشاكلهم التي يواجهونها، وهذا بشهادة من التقيتُ بهم من المقيمين في الدار، وبيّنَت" ان العمل في الدار مستمر على مدار اليوم دون انقطاع، ووصل الامر في بعض الايام بموظفي الخدمة من الرجال والنساء والبالغ عددهم 8 موظفين أن يعملوا على مدار 24 ساعة متواصلة لخدمة المقيمين. في اشارة الى ان عدد موظفي الخدمة قليل وغير كافي. معتبرةً عمل موظفي الخدمة ضرورة قصوى و أهم حتى من وظيفة المدير في خدمة المسنين والعجزة، إضافة الى دور كل من الباحثين الاجتماعيين والبالغ عددهم 4 باحثين، وكذلك دور المفرزة الطبية المتكونة من 8 أشخاص والذين يعملون في مجال الرعاية الصحية والطبية.

و خلال تجوال كادر مجلة الروضة الحسينية في الدار للاطلاع على الخدمات المقدَّمة للمقيمين من كبار السن والعجزة، والوضع المعيشي لهم بشكل عام، وجدنا المساحة المخصصة للسكن ضيقة، حيث لا تتناسب مساحة السكن مع عدد المتواجدين من كبار السن والموظفين، وهذا بدوره قد يؤثر على نفسية كبار السن الذين يرغبون بمساحة مناسبة للتجوال وأخذ الراحة.

 وعن هذه المشكلة أوضحت احتشام" ان قلّة المساحة في الدار أهم ما نعانيه، حيث لا يمكن استيعاب الحالات التي تأتي في الوقت الحاضر، لذلك يصعب علينا قبول أشخاص اضافيين في الدار بسبب ضيق المساحة.

موضحةً" هناك دار بمساحة كبيرة كانت قد خصصت لرعاية المسنين، ولكن بعض المشاكل الادارية والمعوقات القانونية حالت دون استعادته بعد ما تم الاستيلاء عليه من قبل قوات الاحتلال عام 2003، والى اليوم لم يتم حل هذه المشكلة، فيما طالبت" الجهات المعنية بالتدخل لحل هذه المشكلة.

جهود مبذولة لتقديم المعونة

معظم النشاطات والخدمات التي تقوم بها دار رعاية المسنين تأتي بدعم من أيادي بيضاء، تسعى الى تطبيق التكافل الاجتماعي والتراحم والشعور بالمسؤولية في المجتمع، ولتلك الأيادي الدور الفاعل في الكثير من الخدمات التي تُقدم الى شريحة كبار السن الذين قست عليهم الحياة لتجازيهم بدار يأويهم بعيداً عن ديارهم التي كان من المفترض أن يسكنوها وهُم بهذا العمر.

فكان أن بادرت العتبة الحسينية الى حماية الدار في فترة سقوط النظام السابق عام 2003م، لتجدها بعد ذلك عملت على الدعم اللا محدود من مساعدات ودعم للقائمين والمقيمين.      

قصص مؤلمة

كان يجلس يومياً أمام باب داره ليستنشق ما بقي من عمره بعدما قضى منه سبعين عاماً، وليكون عيد ميلاده الواحد والسبعين بعيداً عن مكانه الذي طالما عاش فيه ذكريات حياته، لكن بدا عليه اليوم مرتاح الضمير، بعد ما قضى 12 عاماً في دار رعاية المسنين، لشعوره انه لم يكن ثقل حتى على أبنائه!

انه عبد الامير حسين الاسدي، 82 عام، والذي يُطلق عليه لقب "عميد المسنّين" في الدار وهو احد المقيمين فيها، جاء من بغداد ليستقر في دار الرعاية مع أقرانه من كبار السن، أسردَ لـ مجلة الروضة الحسينية قصته التي انتهت به الى هذا المكان.

يقول عبد الامير، وهو أب لستة أبناء، كنتُ اسكن في بيت كبير أنا وعائلتي بأحد أحياء العاصمة بغداد وتحديداً في حي الجهاد، وخلال احد الايام وبينما أنا ذاهب لقضاء بعض الأمور، اعترضَ طريقي مجموعة من الأشخاص وطلبوا منّي ابراز بطاقتي الشخصية، وبعد الإطلاع على اسمي اعتقلوني فوراً على أساس طائفي واقتادوني الى مكان مجهول، لينهالوا عليَ بالتعدّي والشتم والعبارات الطائفية وغير الأخلاقية، مع اني لم يكن لدي مشاكل او عداء مع أية جهة.

ويسترسل الاسدي" العناية الإلهية شاءت أن اهرب من الخاطفين، ولكني أصبحتُ في حالة نفسية سيئة جداً، فاضطررتُ الى هجرة مكان سكني لأستقر في دار المسنّين، مع انه ليس  لدي أية مشاكل مع عائلتي وأقاربي بل ازورهم واتواصل معهم من خلال الاتصال والتواصل الاجتماعي.

ويذكر" انه متقاعد ويعيش من خلال راتبه التقاعدي، ولم يعمد الى استلام معاش الرعاية الصحية، فيما عبّر ان دار الرعاية بالنسبة له اليوم هو البيت، ويقول "لا استطيع أن أعيش في غير هذا المكان لأنني أصبحت اشعر بالانتماء الشديد له" مشيداً بالخدمات التي تقدم لهم من قبل ادارة دار الرعاية من مأكل ومشرب ورعاية صحية، ومطالبا ان تخصص لهم مقاعد للحج من قبل هيئة الحج والعمرة.

ماجدة ذياب 75 عاماً والتي تقيم في دار رعاية المسنين منذ ما يقارب السنتين والنصف، تعاني من آلام في القدم بسبب حادث قديم تعرضت له جعلها اليوم أشبه بالمقعدة.

و ماجدة هي الأخرى من بين 25 مسنّة اضطرت الى السكن في دار الرعاية لكونها لا تملك من يعيلها سوى ابن أختها الذي هاجر من العراق منذ عشرة أعوام، ولتستقر هي وأختها التي توفيت قبل عام تقريباً في إحدى المستشفيات بسبب مرضها، بعيدا عن ابنها الذي تركها ولم يتفضل عليها حتى باتصال او سؤال عن أحوالها منذ أن غادرها.

وتتمنى ذياب أن تتحسن حالتها الصحية لكي تعاود خدماتها الى أقرانها في الدار، بعدما كانت طباخة ماهرة وبسبب وضعها الصحي اضطرت للجلوس على مقعد متحرك تستعين فيه للتنقل بين زوايا الدار.

 

المجتمعات الداعمة

 ان دعم المؤسسات الاجتماعية التي ترعى المسنّين ضروري، عبر توفير كل الإمكانيات المادية والطبية والعناية بهم، وعدم تركهم أو تهميشهم، كما الاهتمام بكرامة هؤلاء المسنين الذين ضحّوا وربّوا وسهروا على الأجيال التي تبني الوطن.

ويلزم أن نكون أوفياء لهذه الشريحة، من خلال توفير العناية لهم ودعم المؤسّسات التي تعنى بهم وإشعارهم على الدوام بأن كرامتهم محفوظة، وأن هناك من يهتم بهم ويحبهم، انها دائرة متكاملة يجب أن نستكملها دائما، وهذه الدائرة تتكون من الدولة أولاً ومن المؤسسات الضامنة والمؤسسات الأهلية والمؤسسات مقدمة الرعاية والعائلات ثانياً.

وتجدر الاشارة إلى أهمية دور الإعلام في هذه العملية، إذ ليس بالاستطاعة أن نتغاضى عنه، لذلك إذا قام كل شخص منا بالجزئية الخاصة به نتكامل مع بعضنا ويصبح هناك نوع من الاطمئنان حول مسألة المسنّين وأحوالهم.

وقد يرد سؤال في أذهان الكثير، عن دور الجهات الرسمية والمعنية في الشؤون الاجتماعية، وهل هذه الشريحة العمرية هي شريحة غير مسؤولة من قبل الدولة أم هي مسؤولة؟ بالتأكيد يجب أن تكون مسؤولة، لكن ثمة أمور يجب أن يشارك المجتمع بها وكل من موقع القدرة والامكانية في معالجة أمر معين، فمؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية وحتى الأوساط الفنية تلعب دوراً في التثقيف ورسم المسارات الصحيحة ذات النتائج الايجابية وبالتالي القضاء على الحالات الشاذة، وحفظ كرامة الإنسان داخل مجتمعه.

 

تحقيق: محمد ضياء الدين

تحرير: صباح الطالقاني