تداعيات الاستعمار الثقافي

البروفيسور علي عبد فتوني / لبنان

إرتبط مفهوم الإستعمار بإحتلال أرض الغير، أو السيطرة التي تمارسها دولة على شعب آخر، والتحكم بمصيره سياسياً وعسكرياً وإقتصادياً.

أما الإستعمار الثقافي، يستهدف سلخ الدول عن ماضيها وعزلها عن واقعها، وتهميش دورها الحضاري، وإضعافها تمهيداً  لتدميرها بعد مسخ ثقافتها المحلية، بماهي الصورة المعنوية للمجتمع بكل خصائصه الفكرية وسلوكياته الإجتماعية وموروثه الحضاري، وتشويه عاداته وأنظمته الإجتماعية والإقتصادية والتعليمية، وآدابه وسلوكه العام، والأدوات والمستويات الإجتماعية الخاصة به .

وفي نفس الوقت ينقض الإستعمار الثقافي على النفوس مباشرة، فيؤثر على مدارك الناس، ويشكلهم كما يناسبه، ويستخدم القوة التدميرية بكل قساوة ضد المضمون الثقافي الممانع لمشروعه، ويستخدم المؤثرات التي تستهدف الأسرة، وخلق الإضطرابات الإجتماعية، وإعطاء شرعية للتدخل في صميم خصوصيات الشعوب، من خلال إستخدام شعار حقوق الإنسان والمؤسسات الدولية التي تتيح له إيجاد شرعية دولية للتدخل في شؤون الدول الأخرى.  

وفضلاً عما تقدم، فإن دول الإستعمار الثقافي تمارس سلطتها السياسية ضد ثقافة الشعوب، مستخدمة وسائل عديدة بقصد زعزعة الدول الأخرى وجعلها تتقبل أفكاراً أو مفاهيم وقيماً مغلوطة، وتتخلى عن أنماط سلوكها وتطلعاتها لتصبح تابعة للثقافة الغازية .

يتضح مما سبق أن الإستعمار الثقافي يبدأ بتشويه الثقافة والقومية للدول الأخرى، وإبراز جوانب الضعف فيها، بحجة أنها قديمة ولا تصلح لهذا العصر، وقاصرة لا تتسع للمستحدثات من العلوم والآداب، وعاجزة عن متطلبات الحضارة الحديثة، ويستخدم أيضاً كل الوسائل التي يملكها وما أكثرها : الكتاب والمجلة والصحيفة والإعلام المرئي والمسموع، والسينما والفيديو، والسفارات والقنصليات والمخابرات، أو الوسائل الدبلوماسية والثقافية المختلفة، الى جانب التعاون مع أحزاب ومنظمات وجمعيات المجتمع المدني. كما تقوم دول الإستعمار الثقافي بتصدير تجربتها الحياتية والحضارية والتنموية، وتعميمها عالمياً وتصورها على أنها التجربة الناجحة والمثالية، وتستحق دون غيرها أن تكون نموذجاً جديداً للإقتباس والمحاكاة .

وهنا ينبغي الإشارة الى أن الإستعمار الثقافي حاز على مقدرات وإمكانات علمية إستطاعت إختراق الحواجز والحدود، وعملت على شق جهاز المناعة لدى الشعوب، متوسلة في هجومها الصورة بدل الكلمة المكتوبة، وإخترقت الحواجز عن طريق الصورة التلفزيونية المحمولة على موجات الأثير، حاملة معها كل ما يساعد  على تشكيل العقول بالطريقة التي تتوخاها، لتزرع قيم الإستهلاك، وتكون الضحايا الأولى لهذه العملية هي اللغات وصولاً الى كافة النواحية الثقافية وفروعها، وهذا العمل يفوق الإحتلال العسكري لأنه يتغلغل في كل مفاصل المجتمع .

لذلك من المهم أن ندرك، أن المساوئ العالمية أرهقت شعوب الدول النامية، فتأخرها الحضاري ناتج عن ممارسات سياسة دول الإستعمار الثقافي، ومن الخطأ الإستسلام لمفاهيمها ومقولاتها لأنها أخبار مظللة، وعلى الشعوب أن تثق بثقافتها المعاصرة لأنها تنمو وطامحة لدور رائد، وليست من الضعف والهشاشة  بحيث تكون فريسة سائغة للتزييف. ولا شك أن مناهضة الأفكار المستوردة يحتم النظر بعقلانية وواقعية الى المجتمع والأفكار التي تبلور هذا الواقع من جوانبه السلبية والإيجابية منه بخاصة، والى الدور الذي تؤديه الفئات المثقفة في حفز المسيرة التطورية للشعوب أو في إعاقة تلك المسيرة، وضرورة كشف الستار عن القواعد الفكرية التي يرسي عليها الإستعمار الثقافي، وأهم دعائم حضوره في مختلف ميادين النشاط الثقافي .

ومن ناحية أخرى، على النخبة المثقفة، الشاعر والأديب والأكاديمي والإعلامي والسياسي  والمؤرخ، والطبيب والمهندس والقاضي وغيرهم، الدعوة بإلحاح كبير الى التنمية والتأصيل الثقافي، والعمل للتخلص من الأمية والعناية بالتربية والتعليم، وبث المعلومات العلمية في أذهان الناشئة، وتشجيع التأليف والنشر والعناية بترجمة أمهات الكتب ووضعها بين أيدي طلاب المدارس والجامعات، والإستعانة بمختلف وسائل النشر، والدعوة الى إكتسابها .

وفي سياق متصل، علينا إحياء التراث العلمي والأدبي ليكون حافزاً للأجيال الجديدة على الإبتكار والإبداع، والتأهيل الثقافي يكون بإستيعاب المعارف الجديدة من آداب وعلوم، وعلوم سياسية وقانونية وإجتماعية وإنسانية، ثم توطين العلم في الدول النامية لكي تمارسه الشعوب تفكيراً وصناعة وإبتكاراً لا أقوالاً تروى، ومنتجات تستخدم وتستهلك، بالإضافة الى إنجاز البحوث العلمية والإهتمام بالبيئة البشرية، والتنمية الإقتصادية والإجتماعية، وإستثمار المواهب والقدرات التي تعزز الثقة بالمستقبل .

إن ذلك كله يجب أن يترافق مع نضال قومي، يستند الى الحق والمنطق والتاريخ، لتحصين موقف الأجيال الجديدة لكي لا تقع في حبائل الإستعمار الثقافي، والتوجه الى الراي العام في العالم لكسبه الى جانب الحقيقة. وهكذا تكون ثقافة الدول النامية  المتأصلة صداً للإفتراء ودفعاً لكل مسعى يبذله المغرضون لإضعاف العزائم وتفريق الصفوف، بل تكون سبيل الشعوب الى الحرية، وتحقيق جوهر المشروع النهضوي الذي كان ومازال هدفنا، وحلم الأجيال القادمة .