التحديات الدولية وسبُل مواجهتها

البروفيسور علي عبد فتوني/ لبنان

بدأت تتغير صور النظام الدولي، وتجتاح العالم ألوان من التحديات والصراعات،  تبرز مفاهيم جديدة منها القوة والسيطرة والتفوق والنفوذ، والتداخل في المشاريع السياسية، ورسم خرائط من جديد، ورؤى جديدة داخل مختبرات السياسة، والمراكز الفكرية العالمية تكتب مشروعاتها وفق مصالحها.

إن هذه المتغيرات بلا شك ستؤدي الى نتائج خطيرة وكوارث، وتأثير سلبي على العديد من دول العالم، وتمس بعض الدول المتقدمة والنامية، وتلك التي تحاول التحرر والتقدم. وتختلف هذه الصراعات كما تختلف الجهود التي تبذل لمواجهتها من دولة الى أخرى، مع الإشارة الى أن المنطقة العربية على إختلاف ظروفها وإمكاناتها هي جزء لا يتجزأ من هذا العالم، حيث يوجد خطر يحيط بواقعها وحضارتها وثرواتها.

وقد أصبح من المسلمات في الدراسات السياسية اليوم بأن العالم يتغير بسرعة ، وأن هذا التغيير لا يقتصر على أحد جوانبه وإنما يمس بنية النظام وأنماط التفاعلات السائدة فيه والنتائج أو التداعيات المترتبة عليها في ظل المتغيرات الدولية، حيث بات إستقلال الدول يواجه وضعاً خطيراً مع بروز الظواهر التي تكبح السيادة الوطنية لمعظم دول العالم.

وما يحدث في العالم ومن حولنا منذ سنوات هو ليس مجرد تغيرات سياسية وإعادة تركيب التوازن وحسب، فإن ما نراه هو مسألة أعمق تتصل بالمجتمع ككل وبعلاقة المواطن ببيئته، وهو نتيجة التحولات السياسية والإقتصادية، والتكنولوجية بالغة العمق التي فتحت آفاقاً غير مسبوقة، شكلت تغيراً هائلاً في المشهد العالمي، دخلت معه البشرية في عصر جديد.

إنطلاقاً من هذا كله، وبناء عليه، فإن الأمن القومي بأبعاده الخارجية والداخلية وما يتفرع عنه، هو في الواقع أسس القضية الوطنية، ومن الواجب النظر إليها بالمستوى المطلوب الذي تستحقه، مع إدراكنا الكامل وإهتمامنا بالقضايا الأخرى، أبرزها مشكلة الصناعة والزراعة، وتحسين أوضاع العمال ورفع مستوى معيشتهم، وقطاع الموظفين المطالبين بتشريعات تضمن تحسين أوضاعهم وحمايتهم من أخطار البطالة، والمرأة العاملة على تحررها ورفع مستواها والحصول على جميع حقوق المواطنة.

فالدور الأساسي لتحصين الوطن ومواجهة التحديات هو إزالة العوامل المعيقة لحل المشاكل والمساهمة برفع مستوى البلاد العام مادياً وفكرياً والسير خطوات جديدة نحو إكتمال التكوين القومي وتمتين الوحدة الوطنية وإزالة مخلفات الماضي من النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية، والنزاعات العشائرية والعائلية، ورفع درجة التجانس بين أبناء الشعب الواحد.

فكل عمل لحل المشاكل يبقى نضالاً محدود النفع والأثر مالم يعمل جميع أبناء الوطن لإزالة العائق الأكبر في طريق تقدم البلاد وتطورها، ولا تكتمل وطنيتهم وتصبح مؤثرة إذا ما قصروا همهم على النضال من أجل مصالحهم الخاصة دون تحصين السيادة الوطنية والإستقلال السياسي، ورفع المستوى الثقافي ببعده الوطني، وتجديد النظام السياسي والتربوي، وفتح مجال التقدم أمام الاقتصاد الوطني للبلاد، ولا يمكن أن يتيسّر الى الحد المطلوب إلا برفع شأن البلاد، وأول من يطالهم ذلك هم الساسة بحيث لا يتكامل عملهم ونضالهم إذا ما فكوا الترابط ما بين السيادة الوطنية والإستقلال السياسي، متجاهلين أنهما من الضروريات للتغلب على الإستعمار والتبعية.

إن قوة الشعور الوطني الصحيح مستمدة من الأيمان بضرورة المحافظة على سيادة الوطن، وبالتالي فليس وطنياً من يتجاهل أهميتها، بالإضافة الى التمسك بالتاريخ والعمل على تطور البلاد وتقدم إنسانها.

لقد ركزت على أهمية السيادة الوطنية والإستقلال السياسي وصلتهما بقضايا الوطن بناء على ما نلاحظه من أزمات  لدى شعوب العالم الثالث التي أرهقتها المساوئ العالمية، فغدت الحياة عبئاً عليها وغدت هي عبئاً على الحياة، فتأخرها الحضاري ناتج عن عوامل عالمية هي نفسها السبب في مصاعب الحياة البشرية بصورة عامة، وتحرر هذه الشعوب عامل أساسي لخدمتها وتقدمها وإنهاضها.

والجدير ذكره، أن أفكار المجتمع ليست سوى إنعكاس لظروف حياته الواقعية الموضوعية والتي تؤثر على مسيرة تطور المجتمع، وأن مناهضة الأفكار المستوردة يحتم النظر بعقلانية وواقعية الى المجتمع والى الأفكار التي تبلور هذا الواقع من جوانبه السلبية والإيجابية، والى الدور الذي تؤديه الفئات المثقفة في حفز المسيرة التطورية للشعوب أو في إعاقة تلك المسيرة. وضرورة كشف الستار عن القواعد الفكرية التي يرسي عليها الأعداء، وأهم دعائم تغلغلهم وحضورهم في مختلف ميادين النشاط في العلم والفلسفة والآداب والفنون والإعلام ودور النشر والمدرسة والجامعة، والإقتصاد والسياسة.

وحرية الفكر ضرورة ماسة لا بد أن نطلقها للمفكرين "الشرفاء" كأفراد مثقفين لكي يتمتعوا بحرية التعبير عن أفكارهم الجديدة، بل أعني أنها ضرورة ماسة للوطن نفسه، وأنها أشد ما تكون لزوماً له في محنته، فالحاجة إليها مهمة في الأزمات، بل هي قد تزيد أضعافاً، لذلك آن لنا أن نعترف بالنقص لأنه الخطوة التي لا بد منها نحو محاولة العلاج. وهذا هو المفهوم الوطني الذي إنتهت إليه الأمم المتقدمة، وسبقتنا أشواطاً طويلة في الحضارة الراقية والنضج الفكري والمستوى الثقافي والتقدم الوطني.

وبضوء ما تقدم، نؤكد على أن القوى المهيمنة التي تستغل العالم تحت شعارها تحتكر التحكم بالعالم، وتتمتع بسهولة حصولها على الموارد الطبيعية على مستوى الكرة الأرضية، وتتمتع بالقدرة على التحكم بوسائل الإعلام والإتصال، وتمتلك أسلحة الدمار الشامل.

يتضح من هذا العرض، أنه لا بد من إعتماد المواجهة ومبدأ تطوير الذات، وليس المحافظة على ما نعتبره من الثوابت، فالمطلوب تطوير المؤسسات وأنظمتها السياسية،  والتحرك في إنتفاضة تعيد بناء الدول المستهدفة وفقاً لنظرة جديدة تحمي أصالتها وفاعليتها ومصالحها الوطنية في مواجهة المتغيرات، من دون هذا لا نرى أن هناك أفقاً لمقاومة التحديات العالمية التي سبقتنا أشواطاً طويلة في التطور الإجتماعي والإقتصادي والسياسي، والمستوى الثقافي والتقدم الوطني.

ومن المهم أن تبدأ الدول المستهدفة (الدول النامية)  بكسر الدور الفاسد الذي تدور فيه، ومن خلاله تضع الأصبع على مواطن القوة لدى الشعوب وتجعل منها منطلقاً لجهد سوف يتراكم تراكماً ذاتياً، وخاصة أن الإنجازات التي تحققت في مختلف المجالات لم يرافقها تطور موازِ في النظم السياسية بإتجاه الديمقراطية وممارستها وتقاليدها، ومازالت الحريات العامة موضوع إهانة، والمؤسسات الديمقراطية غائبة أو معطلة، ومازالت حقوق الإنسان الأساسية وعلى رأسها حرية الرأي والقول والعمل بعيدة.