ضوء على الأُسر المستقلة في المشرق الإسلامي

الباحث: صباح محسن كاظم                                                

للتاريخ عبق وأريج الحضارة والفعل الإنساني بكل الجوانب المشرقة.. وبالمشرق الإسلامي كانت للحضارة الدور المهم بنشر العلم والمكتبات والعلوم والفلسفة، وبالطبع الكتابة التاريخية  هي حفريات معرفية إريكولوجية بالجوانب المتعددة السياسية الاقتصادية العمرانية الاجتماعية والثقافية التي تحتاج المؤرخ الحاذق، الذي يستخلص العبر والدروس المستقاة من الأحداث. وهذا الأمر يتطلب الجهد المعرفي العميق، والوقت الكافي مع السياحة بمصادر التاريخ وعزل الغث من السمين بالفطنة والحكمة والموهبة للتحليل للوصول لنتائج مقاربة لفهم الأحداث.

وما يميز الدكتورة ولاء محمد، الجدّية، والحرص العلمي، والدقة بالمنهج، وذلك على ضوء معرفتي بأسلوبها العلمي البارع من كتابتي لمقدمة كتابها الرابع، ودراستي لمؤلفاتها بمجلة أوراق ثقافية المحكمة بلبنان، وكتبها الأخرى بمجلة ضفاف.

في كتابها الأخير المهم عن الأسر الحاكمة في الشرق، تناولت في الفصل الأول من الكتاب فترة حكم أسرة آل كرت في مدينة هراه؛ وتاريخ هذه الأسرة وسيادتها في مدينة هراة وسلسلة ملوكهم، والإسهامات الحضارية والمعمارية في المدينة طيلة فترة قرن ونصف القرن من الزمان، وهي فترة حكم ملوكهم منذ عام (643: 618هـ/ 1245: 1222م)، وعرضت خلال هذه الفترة العلاقات السياسية للأسرة مع الدول المجاورة التي حكمت أيضاً من أسر محلية ، مروراً بعرض حكام الأسرة العظماء حتى نهاية حكم ملوكها نتيجة التنازع بين أفراد البيت الحاكم، وأنصرافهم عن البناء إلى القتال ،بالإضافة إلى طمع الدول المجاورة في ملكهم مثل المظفريين في فارس والسربداريين في إيران الذي تخوفوا من سطوة الكرتيين.

أما الباب الثاني فقد تناولت فيه أسرة السربداريين التي حكمت غرب خراسان منذ عام (737: 783هـ/ 1336: 1381م) واتخذت من مدينة سبزاور عاصمة لهم، أوضحت كيفية ظهور أسرة السربداريين في إيران والأسباب التي ساعدت على سيطرتهم في تلك المنطقة خاصة عقب انهيار الإيلخانيين بعد وفاة آخر حكامهم أبي سعيد بن أولجاتيو (736هـ/1335م)، عرضت الأحوال السياسية لدولة السربداريين بعد وفاة أحد ملوكهم العظام وجيه الدين مسعود، وعصر ازدهار الأسرة على يد شمس الدين مروراً بالعديد من الحكام حتى انتهاء حكمهم.

وأصبحت الحقبة الأخيرة من تاريخهم إيذاناً بأفول شمس ملكهم بسبب استلام حكام ضعفاء زمام الأمور وخوضهم حروب في الداخل والخارج، بالإضافة للعصبية المذهبية، وهذا أشعل نار الفتنة مع آل كرت، فضلاً عن الشقاق الذى حدث بين السلطة السياسية والدينية، ولذلك لم يستمر حكمهم طويلاً فقد حكموا خمسة وأربعون عاماً.

لعلّ هذه القراءة  تطلعنا على أحوال الأسر الحاكمة في خراسان من خلال الجهد الذي قدمته المؤرخة الدكتورة ولاء محمد.. كذلك تُبحر مع المتلقي بأشرعة تاريخية في الفصل الثالث من الكتاب مع أسرة آل جلاير التي اتخذت من بغداد وتبريز عاصمتين لها، وامتدّ حُكم هذه الأسرة منذ عام (740 – 813هـ / 1339 – 1410م).

ويعتبر بعض المؤرخين تاريخ هذه الأسرة امتداداً طبيعياً لأسرة الإيلخانيين وذلك لصلة القرابة بينهم، وتكتسب هذه الأسرة أهميتها أنها حافظت على الطابع المحلي للبلاد وكانت راعية للعلماء والأدباء والفنانين، ثم تطرقت الباحثة لملوك الأسرة العظماء ودور كل منهم في الأحداث السياسية حتى نهاية حكم الجلائريين وانحلال الدولة وتفككها بالإضافة لكثرة الصراعات مع اسرة المظفريين في فارس، وأوضحت كيفية محاولة ملوك الأسرة التحالف مع القبائل العربية الموجودة لحماية ملكهم من الإنهيار ولكن تربُّص الأعداء بها كان سبباً لزوالها على يد "دولة قرا قوينلو".

وبدراستي للتاريخ بالبكالوريوس والماجستير والدكتوراه أكثر ما يؤكد عليه علماء التاريخ ضبط الأحداث والمصادر، أجد هذا النفس العلمي الجميل والرصين للمؤرِّخة المؤلّفة بجميع كتبها وأعدّها مصادر بالتاريخ.

بعد ذلك تتجه الباحثة في الفصل الأخير من كتابها أسرة آل مظفر في فارس، الذين اتخذوا من مدينة شيراز عاصمة لهم، وتتبعت الأحداث التاريخية لملوك الأسرة وكيفية نشأة الأسرة وإسهامات ملوكها في البداية لدولة الإيلخانيين، لكن انقلب الوضع بعد رحيل الإيلخانيين وتوهج نجم أسرة آل مظفر، وحظيت الأسرة عن غيرها من الأسرة المحلية السابقة بحرصها الشديد طوال فترة حكم ملوكها بمولاة المغول ودعمهم، وسردت أحداثها السياسية حتى أنتهاء ملكهم، وكانت نهايتهم في عهد الشاة منصور أخر ملوك الدولة على يد تيمور لنك عام 795هـ/ 1393م، وكانت نهايتهم بعد حكم دام ستة وسبعون عاماً.

أكدت المؤلفة بالفصل الأول ان: ((أسرة آل كرت من أشهر الأسر الإيرانية التي ظهرت في اقليم خراسان، وتكمن أهميتهم في انهم يشكلون حكماً ايرانياً محلياً، حافظ القائمون عليه على التقاليد والثقافة الإيرانية في وقت انتهى فيه حكم معظم الأراضي الإيرانية إلى المغول)). وتوضح مزايا الحكم بالقول: ((أسهم ملوك آل كرت في إعادة اعمار مدينة هراة بعد الكارثة التي أحدثها الغزاة المغول عام 619هـ / 1222م، وأدت لاندثار معظم مظاهر الحضارة بها، وأستغرق حكم آل كرت قرابة النصف قرن من الزمن، حكموا فيه المدينة وعملوا على بنائها لتأخذ مكانتها بين المدن الإيرانية، والدليل على ذلك انها اصبحت عاصمه التيموريين بعد زوال حكم الكرتيين أواخر القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي)).

ومن خلال استعراض مسيرة الحكم نجد التحولات التاريخية، فالسلطة تثير شهوة الإستيلاء والتحكم، وقد ركزت المؤلفة على:

الملك فخر الدين كرت:

تولّى المُلك عام 695 - 706هـ / 1295 - 1306م، أثناء حكم والده شمس الدين الصغير الذي استقلَّ القلعة، والأمير هو الأبن الأكبر لشمس الدين رغم ذلك حبسه والدة سبع سنوات بسبب غضبه منه لتدخله في شؤون الحكم لكنه هرب عام 693هـ / 1293م، وتدخل الأمير نوروز للوساطة بينهم لكن شمس الدين رفض في بداية الأمر خوفاً من ان يتسبب الأمير فخر الدين في سوء العلاقة بالمغول الإيلخانيين، لكن بعد مفاوضات رضى عنه.

منح الأمير نوروز الخلع لفخر الدين بحضور أمراء خراسان، وزوّجه من أبنة اخيه لتوطيد أواصر الصداقة بين الملكين بالمصاهرة، وتوطدت العلاقات بين فخر الدين والمغول بعد مساعدتهم ضد المغول الجغتائيون "حكام ما وراء النهر" الذين أغاروا على خراسان بقيادة "دوا بن براق خان" برفقه ألف جندي واستطاع فخر الدين هزيمتهم، واستدعى غازان خان الأمير فخر الدين لمكافأته على مساعدته لهم لدحض خصومهم، ومنحه الخلعة الملكية)) وتستمر المؤلفة بالبحث التاريخي بالفصل الثالث والرابع، حيث تناولت أسرة آل مظفر ونشأة المظفريين حُكم مبارز الدين محمد:

فترة حُكم أبناء مبارز الدين المظفري - حُكم زين العابدين بن شاة شجاع - حُكم الشاه منصور المظفري، هي من إحدى الأسر المحلية التي حكمت المشرق الإسلامي في ظل الدولة الإيلخانية، ويرجع إلى هذه الأسرة الفضل في الحفاظ على التراث الإيراني في فارس خاصة بعد انقضاء الإيلخانيين وتفكك الدولة بعد وفاة ابي سعيد الضحاك (7361هـ/ 1335م) ونسب الأسرة يعود إلى الجد الأكبر "غياث الدين حاجة الخراسانى" ويعود نسبه إلى العنصر العربي، وكانوا يمكثون في قرية نشتغان أثناء هجوم جنكيز خان على "يزد" ثم مغادرتهم المنطقة بعد هجوم جنكيز خان، وترك غياث الدين ثلاث ابناء هم "أبى بكر" و"محمد" و"منصور"، وأنجب منصور ثلاث أبناء هم "محمد – على – مظفر" وتنسب الدولة إلى مؤسسها الملك المظفر.

لاريب إن تلك السياحة التاريخية تضفي الثراء المعلوماتي للمختص أو المطلع الذي يرغب بمعرفة تاريخ الشرق. لذلك ترى المؤلفة: ((في النهاية ان الأسر المحلية أدت دوراً تاريخياً وحضارياً واضحاً في النهوض بتاريخ المدن المشرقية التي حكموها، فحكموا مدنهم مدداً متباينة حافظوا خلالها على التقاليد المحلية في الأدارة والحكم في وقت سيطرة المغول بشكل كامل، وكما كان جنكيز خان قبلهم وتيمور لنك بعدهم، وأراد ملوك هذه الأسر أن يبقى ذكرهم في التاريخ لذلك ساهموا في بناء مدنهم والاهتمام بعلمائهم حتى يبقوا كمنارات مضيئة في تاريخ المشرق الإسلامي)).