مبدأ خلود الروح عند الفلاسفة المسلمين.. البيروني أنموذجاً

جلال حسن النجفي

ظل الإنسان منذ أن خلقه الله حائرا في المصير الذي ستؤول إليه ذاته بعد أن رأى زوال أحبته وأهله وآبائه وذويه بعينه، وبعد أن دفن موتاه بيديه، وحينما بدأ الانسان  بإدراك الأمور من حوله من خلال تطوره واستعداده لقبول الرسالات النبوية التي أراد الله من خلالها بالناس خيرا ليتدبروا هذا الخلق العظيم بدأت تأملاته وفلسفته تتبلور لمعرفة الأسرار ومنها ما يتعلق بالروح، فالديانات السماوية تؤمن بأن الروح خالدة، حيث يفترض الدين السماوي أن الروح ستعيش في الجنة أو الجحيم بشكل أبدي، ووفقًا للقرآن الكريم، فإن الإنسان يُخلق بعد نفخ الروح فيه، وعند الموت تنتقل الروح إلى الحياة الآخرة حيث النعيم والسلام الروحي الذي لا ينتهي، ويمكن أن تنتقل إلى الجحيم اعتمادًا على ما قدمه الانسان في حياته الدنيا من خير أو شر..

إن خلود الروح بعد انفصالها عن الجسد يعني أن تطوف هذه الروح بشكلها غير المادي، أي أنها لا تمتلك امتدادًا ماديا مرئيا للناس، وبالتالي لا يمكن إدراكها من خلال الحواس المجردة إذ يرى الفيلسوف المسلم ابن سينا أن الروح من العالم العلوي ذات طبيعة خاصة مغايرة تماماً للجسد فهذا الأخير يتكون من العناصر الأربعة أي (الماء والهواء والنار والتراب). وتتحد به عقب الولادة وتفارقه بعد الموت لتعود إلى الباري عز وجل. فهي بهذا المنظور صورة للجسد وذات تعلق به ولكنها لا تفسد بفساده، ولا يغير منه جوهرها، لأن الروح البشرية تتأسس في الوجود فقط عندما يكون الجسد مستعدًا لاستقبالها.

وإذ يتم التعرف على الإنسان بروحه، فإنه يحقق كماله الأساسي فقط بمساعدة الجسد. وبالتالي يتم إعادة دمجه في حقيقة الطبيعة البشرية. لأن ابن سينا ​​يرفض إنشاء تبعية وجودية بين الروح والجسد؛ الروح مادة تعيش في حد ذاتها، وهي تمارس حركة الجسد في صيغة مبدأ منفصل، انه مبدأ الحياة والحركة والإدراك الفكري.

أما أبو ريحان البيروني ت440 هجري، فهو عالم من علماء المسلمين في الحضارة الإسلامية، وهو رحالة وجغرافي، وفيلسوف، وعالم طبيعة، وفلكي، وصيدلي، وجيولوجي، ومؤرخ، ومترجم لثقافات الهند، إذ وصف بأنه من أعظم العقول التي عرفتها الثقافة الإسلامية، وهو أول من تكلم بدوران الأرض حول محورها، وقد سافر البيروني إلى الهند فأصبح من أهم المهتمين بالعلوم الهندية الإسلامية وغير الإسلامية، وقد أعطاه المؤرخون لقب (مؤسس علم الهنديات).

ولم يترك البيروني كتابا فلسفيا وإنما كتب كتابا عرض فيه لعقائد الهنود وآرائهم قبل دخولهم الإسلام وفند هذه الآراء أو النظرية التي تعرف بتناسخ الأرواح بعد مقارنتها بنظرية الإسلام في خلود الروح، وتقوم نظرية البيروني القريبة من المقاربات الانثربولوجية الحديثة على مبدأ أن كل الأديان سماوية كانت أم بشرية أولت عنايتها بالموت وبما يعقبه من مصير ينتهي إليه الناس، ولذلك تطرّق البيروني إلى عقيدة الهنود لبيان خلطها بالمقارنة مع النظرية الاسلامية في هذا لذلك يقول في كتابه المعنون: تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة: (كما أن الشهادة بكلمة الإخلاص شعار إيمان المسلمين، والتثليث علامة النصرانية، والإسبات علامة اليهودية، كذلك التناسخ عَلَم النِّحلة الهندية، فمن لم ينحله لم يك منها، ولم يعد من جملتها).

ولا يفوت البيروني الذي أخضع التاريخ العام للمجتمع الهندي في عصره  للأسلوب العلمي فحوادثه وانقلاباته وتصوراته كان يدرسها ويمحصها على ضوء المناخ والبيئة الاجتماعية وطبيعة الإقليم، وكان يعنى بأثر الثقافة الشائعة في عصره ونظم الحكم السائدة في زمانه، بجانب العقائد والديانات وما يتبع ذلك من الدوافع والمؤثرات، وهو يعرض لعقيدة التناسخ التي يقول بها الهنود أن يعرض للواقع الثقافي الهندي - آنذاك- وهو ينتج مثل هذه الأفكار، فمما لاشك فيه أن الوسط الذي ينشأ فيه الإنسان والظروف التي تكتنفه لها تأثير كبير في صوغ أفكاره وقناعاته، ومن هنا ندرك أن العقل ليس حراً في أكثر حركاته وأغلب ميادينه، وإنما هو مجبور على ما يؤديه من الوظائف بدافع من الطباع..

ولذلك يقول في كتابه عن عقيدة التناسخ عند هذا المجتمع الذي عاصره وعايشه ونقل لنا افكاره بحذافيرها: (إن الأرواح لا تموت، ولا تَفْنى، وأنها أبدية الوجود، لا سيف يقطعها، ولا نار تحرقها، ولا ماء يغصها، ولا ريح تُيَبِّسها، ولكنها تنتقل من بدن إلى بدن، كما يستبدل البدن اللباس إذا خَلق، وتترقّى النفس في الأبدان المختلفة كما يترقى الإنسان من طفولة إلى شباب إلى كهولة إلى شيخوخة. ذلك أن النفس طالبة للكمال، شيقة إلى العلم بكل شيء، وهذا يحتاج إلى زمن فسيح، وعمر الإنسان وغيره قصير، فلا بد من تنقُّل النفس من بدن إلى بدن، وفي كل بدن تستفيد تجارب جديدة، ومعلومات جديدة، فالأرواح الباقية تتردد في الأبدان البالية، وهي تتردد من الأرذل إلى الأفضل، دون عكسه، لتترقى النفس في الكمال، حتى يتحقق شوقها بعلمها ما لم تعلم، واستيقانها شرف ذاتها، واستغناؤها عن المادة، فتعرض عنها. ويتحد العاقل والعقل والمعقول، ويصير واحدًا)...

وذلك من خلال ربط هذه النظرية بوظائفها الاخلاقية المنسجمة مع طبيعة المجتمع الهندي الميالة إلى التأمل العميق منذ القدم. غير أن اختلاف هذه النظرية عنها في الاديان كلها لا تقول بانتقال الروح بعد الموت من بدن الى بدن مختلف وإنما بالقول بأبدية الروح وخلودها وعودتها إلى بدنها عند البعث، لتعيش مع البدن حياة منعمة أو شقاء أبدياً، وعلى هذا الاساس فان وظيفة البعث في الدين الاسلامي تنطوي على بعد أخلاقي يتمثل بمحاولة درء الناس عن فعل الشرور والعدوان، وللقارئ الكريم أن يتصور قيمة العدوان والتجاوز الذي قد يحدث بين الناس في حالة غياب مثل هذا التصور الكابح للغرائز الشيطانية الجامحة عند الانسان.

وواضح من خلال ما يعرضه البيروني في كتابه مارّ الذكر من تناسخ للأرواح في أجساد أخرى بشرية أو حيوانية كما يسجل رصده للأفكار في المجتمع الهندي الذي عايشه وعرف لغته وتفكيره، أن هذه النظرية تتعارض مع الفكر الاسلامي القائل بعودة الأرواح للأجساد بعد البعث لتلقي الجزاء في الحياة الأخرى، التي وعد الله عباده فيها لا لعيش النعيم أو الشقاء في هذه الأرض أو في هذه الحياة الفانية كما قال بذلك فلاسفة الهنود. وإن عودة الأرواح كما تقره العقيدة الاسلامية لا تكون إلا لأبدانها التي حلّت بها أول مرة وفارقتها عند الموت، لتعود اليها بعد البعث لتكتمل دورة وجود الانسان ومغزى خلقه بصورة منضبطة لا بصورة منفلتة كما ذهبت العقيدة الهندية القديمة القائلة بالتناسخ.