العلاقة التكاملية بين الثقافة والتعليم

البروفيسور علي عبد فتوني / لبنان

تعتبر الثقافة الذاكرة الجمعية للمجتمع، وأساس هويته وتميزه، ومجموعة متكاملة من القيم والتصورات والتقاليد، يتداولها الناس جميعاً، وتتوارثها الأجيال لكونها رأسمالاً ثميناً يتعين الحفاظ عليها. وكذلك تتميز الثقافة بخصوصية دورها في تطوير المجتمع، فهي الرافعة والرافدة، والمحركة والموجهة، والمنظمة لإنتاج الحياة الفكرية في المجتمع، والمرآة التي تعكس طبيعة الحياة الإجتماعية لدى الشعوب، وتساهم في توضيح مكونات المجتمع والقيم الأصيلة الخاصة به، ومخزوناً ومستودعاً لقيمه وأعرافه وأحكامه .

منظمة اليونسكو أصدرت عام ٢٠٠٢، نصاً تعريفياً للثقافة جاء فيه:" ينبغي أن ينظر الى الثقافة على أنها مجموعة مميزة من النواحي الدينية والفكرية والمادية والعاطفية للمجتمع أو لجماعة من الناس" .

وعندما نتحدث عن العلاقة التكاملية بين الثقافة والتعليم، علينا أن نشير الى دور المؤسسات التعليمية في عملية التوجيه والتثقيف، للتأكيد على عمق العلاقة بين الثقافة والتعليم، فهما سوياً يلعبان دوراً جوهرياً في إطلاق الطاقات وتعزيز الكفاءات والإرتقاء بالمجتمعات عبر تنمية أجيال متعلمة ومثقفة. وهذه العلاقة لا تتوقف عند زمان ومكان، حيث يهدف التعليم لنقل الثقافة من جيل الى جيل بالشكل الصحيح، وبطريقة حضارية متطورة تنسجم مع تطلعات جيل المستقبل بوسائل حديثة تعمل على تعزيزها وتبقيها على قيد الحياة .

يؤكد ما تقدم أن العلاقة بين الثقافة والتعليم علاقة تكاملية ضرورية وحتمية، متكاملة الأهداف والمرامي والغايات ولا يمكن الفصل بينهما رغم تباين وجهات النظر، فالبعض لا يزال ينظر الى الثقافة على أنها نشاط أو مرحلة مختلفة ومنفصلة عن التعليم، وهي كيان النخبة في المجتمعات تتمحور حول مجالات ومواضيع معينة تضاف الى حصيلة الفرد، ولكن الواقع يؤكد دائماً على أنهما ينضويان تحت مظلة واحدة وقد خلقا لإستكمال دور رئيسي ألا وهو العمل جنباً الى جنب لتنمية أجيال متعلمة ومثقفة تعي أهمية الجمع بين الأثنين وضرورة توازنهما، وترك أيضاً بأن الثقافة والتعليم صنوان لا ينفصلان عن بعضهما البعض، ولا يمكن الإرتقاء بالمجتمعات بغيرهما، فكلاهما يؤسس لأفكار المجتمع وقيمه .

إزاء ذلك نقول، أن عملية تغيير ثقافة المجتمع تبدأ من المؤسسة التعليمية التي تسعى الى تشكيل الثقافات المتنوعة، وإكتشاف المواهب والمعرفة التامة، والعمل على تزويد هذه الطاقات بالمهارات التي تمكن المرء من الرقي وتحسين مستواه وعطائه، ما يؤثر إيجاباً على مستوى الوعي والإهتمام الثقافي لدى هذه الناشئة والجيل الذي ينتمون إليه .

حيال ذلك نؤكد، أن التطور الإجتماعي والرقي الإنساني الى الأعلى يعتمد على قطبين هما الثقافة والتعليم، وهذا التكامل يؤسس على المستوى الإجتماعي عملية مثاقفة واعية ورشيدة ، نتيجة الى طاقات الإنسان الكاملة فتفجرها، والى سلوكه فتهذبه .

وينبغي الإشارة الى ان التعليم يصنع المحيط الإجتماعي الملائم لإزدهار الثقافة ونموها، لأنه يعمل على غرس القيم العليا في نفوس الناشئة، وهذه العملية تؤثر إيجاباً في مستوى الوعي وتعزيز الثقافة .

وعلى ضوء ما تقدم، نقول إن التطور الإجتماعي  والرقي بالإنسان الى الأعلى، يعتمد على قطبين أساسيين هما الثقافة والتعليم، حيث لهما مدخلية أساسية في زيادة الإنتاج على  مستوى الفردي والجماعي، إضافة الى ذلك فإن التعليم يساهم بشكل نوعي وأساسي في إعلاء شأن الثقافة في المجتمع لأنه ليس مفصولاً عن العملية الإجتماعية  إنما هو جزء منها، وقد لعب دوراً مهماً في التبشير بالقيم الفكرية المختلفة، وتشكيل الإرادات وإكتشاف المواهب، والتعرف عن قرب على القابليات والميول، والعمل على تزويد هذه الطاقات بالمهارات .

فضلاً عما تقدم، نشير الى أن المؤسسات التعليمية إلتزمت ببرنامج فعال لتحقيق العلاقات الناجحة مع المجتمع، ووضع هذا البرنامج في إعتباره خصائص المجتمع الذي يخدمه، وإمكانية ومدى طموحه وتطلعاته وما يتوقعه منها، بهدف زيادة مستوى الفهم المتبادل، وبناء مجتمع قادر على مجابهة الأزمات .

يتضح مما سبق، أن التجانس في الفهم بين المؤسسات التعليمية والمواطنين مسألة على درجة عالية من الأهمية، لا سيما في الدول التي تعاني من مشكلة الإنغماس الشعبي في التعليم. وفي سياق متصل، فقد كان مفهوم التعليم ضيق، يحصر العملية التعليمية بين جدران المؤسسة، أو بين المعلم الملقن والطالب الحافظ، ما أدى الى التقليل من أهمية العلاقة بين التعليم والثقافة والمجتمع .

إن مثل هذا المفهوم المحدود للمؤسسة التعليمية ساد وما يزال يسود في بعض الدول ، فعلى الرغم من إقرار العلاقات الوثيقة بين المؤسسة التعليمية والمجتمع، لم يعط هذا الموضوع من الناحية العملية إهتماما" كبيرا" إلا منذ سبعينات القرن الماضي. وهكذا أصبح الإتجاه مركزاً في سبيل تصور مفهوم أوسع للتعليم، يشمل محيطات الطلاب جميعاً، التعليمية والثقافية والإجتماعية، والعائلية والمهنية وغيرها، ويأخذ بعين الإعتبار جميع العوامل وعلى الأخص الفكرية والثقافية .

وهكذا نرى المؤسسات التعليمية بمفهومها الحديث، تطالب بتهديم الجدران بينها وبين المجتمع لتساعده على الإعداد للحياة بمرافقها المختلفة، عن طريق البرامج  المنظمة والمرتبطة بالحياة على الصعد الفكرية والإجتماعية والثقافية .

ومن الناحية الجماعية يمكن القول، أن المؤسسات التعليمية لم تقتصر مهمتها على تعليم الناشئة، بل إمتدت خدماتها الى أن تكون أيضاً مؤسسة إجتماعية، ومركزاً لتعليم الكبار في شتى المجالات الفكرية والثقافية والصحية والوطنية والقومية، وبذلك أصبحت لدى المجتمع مختبراً ومعملاً لتطوير المجتمع .

وقد فتحت المؤسسات التعليمية أبوابها لكي تستقبل الآباء والأمهات والأبناء معاً في ندوات فكرية وثقافية، أو مناسبات وطنية وإجتماعية، ولم يقتصر جهدها على الإستقبال، بل إنها أشركتهم في عمليات التخطيط لهذه اللقاءات والندوات، وفي تنظيمها وإدارتها، ومن خلال هذه المشا كة الإيجابية تولد في نفوس الأهالي الشعور بأن المؤسسات التعليمية تخدم الأبناء كما تخدم مجتمعهم .

لقد أدركت المؤسسات العليمية أن الثقافة تنتقل في ظل نظام العولمة من هامش الحياة الى مركزها، وتدور حول تنمية القدرات الإنسانية ورعايتها، لخلق الإنسان المنشود، وردم الهوى بين التقدم الصناعي من جهة، والتقدم الفكري والثقافي من جهة أخرى، ولا بد للثورات الصناعية وما بعد الصناعية والمعلوماتية من أن تستدعي قيام ثورة ثقافية، تتآخى في ظلها الفنون الصناعية، والتكنولوجية لأن الإنماء الثقافي فرض واجب على الإنسان، لأنه يؤهله ليحيا حياة إنسانية حقيقية، تحرره وتجعله قادراً على تطوير الإطار الإجتماعي الذي يعيش فيه .

نسلط الضوء اليوم أكثر من أي وقت مضى على العلاقة التكاملية بين الثقافة والتعليم، وأهميتها في تنشئة الإنسان عل  أسس سليمة متوازنة، وبناء شخصيته بناء متكاملاً من الناحية الفكرية والثقافية والإجتماعية، لأن الإهتمام بالعنصر البشري هو شرط أساسي وهام لأي عملية إصلاح وتطوير في ظل عصر التفجر المعرفي، والمكتشفات العلمية والمخترعات التقنية، وتطوير وسائل الإعلام والإتصال .

وفي الختام، لا بد من الإشارة الى الغزو الثقافي الذي تتعرض له الأجيال الناشئة عبر وسائل تقنية عديدة، أبرزها الأنترنت والأقنية الفضائية وما تقدمه من مواد إعلامية وثقافية، تستهدف تشويه التاريخ والتراث، ومحو الهوية الوطنية وتقليص الإنتماء، وإفساد القيم وتشويه الحقائق والأصالة لدى الشعوب .