لماذا ينكرون الإمامة؟

الباحثة: رجاء بيطار

بعدما استطعنا أن نثبت الوجود الإلهيّ بدليل العقل والفطرة في المقالات السابقة، مع غناه عن الإثبات، ولكنه ردٌّ على المنكرين ليس إلا، وبعدما أثبتنا ضرورة النبوة، ثم ناقشنا وفنّدنا الشبهات التي أوردها المنكرون حول النبي الأعظم محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، كان لا بدّ لنا من الوصول، في سلسلة العقائد الأساسية التي وضعها الخالق جلّ وعلا لسعادة البشرية، إلى موضوع الإمامة، فهي التالية للنبوة في تسلسل تصنيف البشر الموكل إليهم أمر إصلاح الإنسان، وكما أن للنبوة قواعد وأساسيات لا بدّ من توفّرها في شخص النبيّ، وفي آلية اختياره نبيًّا من قبل الله جلّ وعلا، فكذا هو الإمام، حيث أن دوره مكمّلٌ لدور النبيّ، فهو يتابع المسيرة ويرافقها ويصوّبها، لا من تلقاء نفسه، بل بتكليفٍ إلهيٍّ لا يختلف عن تكليف النبي.

ولعلّ في إلقاء الضوء على بعض ما أورده علماء اللغة والتفسير في محور الإمامة، ما يساعد على الوصول إلى لبّ الموضوع، بحيث يكون مقدّمةً للحديث عن ضرورتها من جهة، وعن حيثيّاتها البشرية والإلهية من جهةٍ أخرى، ثم نخوض في خصوصيات الإمامة الإسلامية، التي هي خاتمة الإمامات، كما أن النبوة المحمدية هي خاتمة النبوات.

فالإمامة لغةً مصدرٌ من الفعل "أمّ"، ويقول ابن منظور في معجمه: "الإمام كلّ من ائتمّ به قومٌ كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالّين، والجمع أئمة... وإمام كلّ شيءٍ قيّمه والمصلح له"[1].

والإمامة اصطلاحًا تختلف لفظًا وتتّفق معنًى، حيث يعرّفها الماوردي بقوله: "الإمامة موضوعةٌ لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا..."[2]، بينما يعرّفها المحقّق الحلّي بقوله: "رئاسةٌ عامة في أمور الدين والدنيا لشخصٍ من الأشخاص نيابةً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم"[3]...

على أن القول الفصل للقرآن الكريم، حيث يقول الله عزّ وجلّ في موارد متعدّدة وآياتٍ متفرّقة، نذكر منها موضع الشاهد: ﴿وكلّ شيءٍ أحصيناه في إمامٍ مبين﴾[4]،﴿والذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرّيّاتنا قرّة أعينٍ واجعلنا للمتّقين إماما﴾[5]، ﴿إني جاعلك للناس إماما﴾[6]، ﴿ومن قبله كتاب موسى إماما...﴾[7]، ﴿وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لمّا صبروا...﴾[8]، ﴿ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين﴾[9]...

يظهر لنا من صيغة "المتكلم" (أنا، نحن) التي تبرز في هذه الآيات، والعائدة إلى ربّ العزّة جلّ جلاله، أن الإمام المذكور الذي هو رئيس القوم وصاحب شأنهم، كما ورد في المعنى اللغويّ، هو عائدٌ في مرجعيّته إلى الله تعالى، كما أن (وجعلنا) (واجعلنا) (جاعلك) (نجعلهم) (جعلناهم) لها دلالاتٌ أخرى... فـ"جعل" لغةً خلق وأنشأ، مما يدلّ على أن الإمامة مجعولةٌ من الله عزّ وجلّ لصاحبها، وليس لأيّ إنسانٍ أن يدّعيها من تلقاء نفسه، ولا حتى من خلال غيره من البشر، بالانتخاب أو الاختيار أو غير ذلك...   

ليست الإمامة مصطلحًا إسلاميًّا خالصا، كما يظهر واضحًا في الآيات التي ذكر الله عزّ وجلّ فيها إبراهيم وموسى عليهما السلام كإمامين، ولذا فإن تكرارها بمعنى الرئاسة والمسؤولية الإلهية، وورودها في حقّ الأنبياء السابقين، يوسّع إطار الفكرة، ويبرهن على ارتقائها واختصاصها بمن نصّبهم الله لهداية خلقه، بل إن بعض المفسّرين عدّوها منصبًا أرفع من النبوة، باعتبار أن بعض الأنبياء لم يكونوا أئمة ثمّ كُرّموا بمنصب الإمامة، فكانت الإمامة ارتقاءً لهم في سدة التكليف، وذلك قول النبي إبراهيم (ع) مخاطبًا ربه: ﴿واجعلنا للمتّقين إماما﴾، وقول الله عزّ وجلّ له: ﴿وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ فأتمّهنّ قال إنّي جاعلك للناس إماما﴾، فالإمامة إذًا قد تجتمع مع النبوة، كما جُمعت لإبراهيم ونبينا محمد (ص)، وقد لا تجتمع، وذاك حال بعض الأنبياء الذين لم يكونوا أئمة كيونس ولوط...، وحال أئمة أهل البيت عليهم السلام الذين خصّهم الله عزّ وجلّ بخلافة النبيّ وجعلهم أوصياء له دون أن يكونوا أنبياء، كما سنتوصّل في نهاية البحث.

إن الإمامة بمفهومها العام هي تلك، وبمفهومها الخاص هي شكلٌ من أشكال الخلافة والوصاية للنبيّ، بحيث يقع على عاتق الإمام الخليفة الوصيّ استكمال مسيرة النبيّ، وإنّ نظرةً واحدة في التاريخ البشري وسير الأنبياء السابقين تؤكّد دونما شكّ أن الأنبياء كانوا يقومون بتنصيب خلفاء لهم قبل وفاتهم، وذلك بأمرٍ من الله عزّ وجلّ، وكان الوصي دائمًا نبيًّا تاليًا للنبيّ السابق، ولعل ذلك هو أحد تفاسير حديث المنزلة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال لعليّ عليه السلام: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبيّ بعدي"[10]... حيث أراد في جملة ما أراده أن يبيّن الفرق بين إمامة علي ونبوة سائر الأوصياء، فهو منه كما كان هارون من موسى، إلا أنه ليس بنبي...

لعل منكري الإمامة، الذين يفترض بهذا المقال أن يجيبهم على إشكالاتهم، لم ينكروا خلافة الأنبياء السابقين وتنصيبهم أوصياء من بعدهم، بل كان جلّ همّهم إنكار الإمامة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله، لا لرفضهم الخلافة بعنوانها العام، بل لرفضهم أن تكون إلهية، وقد ردّ عليهم أهل الإمامة بما يفحمهم ويدحض حججهم، بدءًا بمولاتنا الزهراء عليها السلام في خطبتها الفدكية، ومرورًا بالأئمة عليهم السلام كلما كان للردّ ضرورة، وانتهاءً بعلماء الشيعة وفقهائهم الذين ناظروا وقارعوا وقاموا بالأدلة والبراهين القاطعة على إلهية الإمامة من جهة، وعلى انحصارها في الإمام عليّ عليه السلام والأئمة من ذريته من جهةٍ أخرى، عقلًا ونقلا...

إن هذه النقطة بالذات؛ اختصاص الإنكار بخلافة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، تكفي لتطرح السؤال الأساس: لماذا تقبلون أن يكون للأنبياء السابقين خلفاء إلهيين، وتنكرون ذلك لخاتم الأنبياء، علمًا أن النبيّ الخاتم هو الأجدر بتنصيب الخليفة الإلهي، حيث لن يأتي بعده نبيّ يكمل مسيرته، كما هو الحال مع من سبقه؟!

في صدد الجواب عن هذا السؤال، استكمالًا لموضوع الردّ على منكري الإمامة في هذا العصر، الذين لا يختلفون كثيرًا عن سابقيهم إلا في بعض الجزئيات التي تعود إلى نفس المنشأ، ستكون المقالة المقبلة إن شاء الله محصورة بالردّ على أبرز الشبهات التي يطرحها المنكرون للإمامة الإلهية، سواءً على مستوى التبرير السياسيّ لقضية الشورى، أو على مستوى الإنكار العقائديّ لأفضليّة عليّ عليه السلام على سائر المسلمين.

          

 


[1]  ابن منظور، "لسان العرب"، ج12، ص24 و25

[2]  الماوردي، "الأحكام السلطانية"، ج1، ص5

[3]  العلامة الحلي، "النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر"، ص93

[4]  سورة يس، الآية 12

[5]  سورة الفرقان، الآية 74

[6] سورة البقرة، الآية 124

[7] سورة هود، الآية 17

[8]  سورة السجدة، الآية 24

[9]  سورة القصص، الآية 5

[10]  العلامة المجلسي، "بحار الأنوار"، ج37، ص273