الناجون سهواً من رعب السجون البعثية.. في رواية

صباح محسن كاظم

أبشع حقبة بتاريخ الشعب العراقي من سنة 1963 - 2003 في أربعة عقود من الزنازين المظلمة، وسياط الجلادين، والإعدامات الجماعية التي خلفت أكثر من 400 مقبرة جماعية توزعت على خارطة العراق من شماله لجنوبه ومن شرقه لغربه.. عصر الرعب والعنف وعشرات الأجهزة الأمنية والقمعية والاستخبارية.. حين وظّف بعث الطاغية كل المقدرات ضد شعبه من أجل تكريس سلطته بعنف فاق الخيال.

الناجون سهواً، الفارون من السجون، الباقون على قيد الآلام.. دوّنوا تلك المآسي بالسجون المظلمة الممتلئة بالقذارة والقمل والجرب والجوع والاغتصاب لأسوء حقبة بتاريخ العراق.. كنت أمني النفس بزوال الطاغوت لأقرأ تلك القصص، كنا نسمع ذلك خلسة أو مررنا بأيام تحسب دقائق لمن كان تحت الأرض لعقود الظلم..

كتبتُ عن رواية ممر للضفة الأخرى لأحمد الباقري التي تناول فيها السجون بالنظام الملكي وعهد البعث، والهروب للحرية للدكتور حسين الشهرستاني، وصحراء نيسابور للمبدع حميد المختار، وقصص ميادة العسكري عن سجنها بسجن البلديات، وقصة سجينة، وقصة سجين، وبالإجمال وجدتُ 20 رواية عراقية تروي المأساة التي عاشها الشعب العراقي من جلاوزة النظام بسبب كتابة التقارير من الأب على ابنه والزوجة على زوجها والجار على جاره، للأسف أدباء السلطة كانوا يتغاضون عن ذلك فيما شمّروا عن سواعدهم لمدح الدكتاتورية ووقّعوا بالدم تأييداً له.

في رواية شمال مدينة القصب /نعيم كرم الله/ صدرت قبل أيام من 2022 /دار السرد – المتنبي  بـ404 صفحات.. من عتبة الغلاف.. يبدو الظلام الداكن مع حمرة الدماء مع المجهول ليشكّل مداخل توحي لبوابة الجحيم التي تنتظر كل سجين بلا آفاق وفضاءات للخروج من أتون التعذيب ومصائر الإعدام.. إنه الرعب حقاً..

من الصفحة الأولى يروي بواقعية السجين "نعيم كرم الله" أحداث مؤلمة عن اقتياده من قبل الاستخبارات العسكرية لجهة مجهولة، حينما كان في الطبابة العسكرية وهو بالمرحلة الثالثة، ويرتدي زي الطبابة، في ص5 يقول: ((وقف ضابط الخفر، عند باب مطعم التلاميذ في مركز الطبابة العسكرية، ونادى عليّ من خلال الزحام:

- عليك أن تأتي إلى هنا حال انتهائك من الإفطار. ضحك التلاميذ الذين يقفون إلى جانبي حول طاولة الطعام مازحين...)) وإذا بجنود وحرس وعسس الشيطان يطوقون المكان للإعتقال. يصف الأجواء المرعبة حيث تخلى الجميع من الطلبة عن أحاسيسهم الإنسانية إلا زميله ((صباح)) الذي كان يخشى عليه من الإعدام فأوصاه  بالإسراع لإلقاء الكتب من حقيبته بدجلة  خشية ان يعرف أزلام النظام بها بالسجن العسكري..

- يسترسل بسرد قصته المؤلمة التي طالت أعوام بعد أعوام.. ثم كيف كان موقف النقيب أحمد شرهان من العمارة بشد أزره بالقول ص9 :( - مهما يكن، عليك أن تكون قوياً وكن رجلاً شجاعاً. غادرت السيارة مركز الطبابة، غادرته وهو يغرق في غابة من أشجار البرتقال والسرو واليوكالبتوس، وتتخلله حدائق الروز وأزهار القرنفل...) من تلك الأجواء الطلابية إلى قعر السجون المظلمة وهو ينتقل من سجن إلى سجن، ومن غليظ قلب إلى عديمي ضمير ورحمة وإنسانية وهم يتعاملون بوحشية كالذئاب، لقد تجردوا من الدين والأخلاق.. مَن يقرأ في صفحات هذه الرواية سيشعر بالرعب من القسوة، كيف من تعامل بقربهم من وحشيتهم وهم يحطمون الرؤوس ويكسرون العظام والتعذيب آناء الليل وأطراف النهار.. حراس السجون وجميع السجانين البعثيين من شذاذ الآفاق ممّن كانوا عبيد النظام دون رأفة حتى بالسجينات الأمهات - الزوجات - شقيقات السجناء بين اغتصاب وبين قتل وبين قطع الأطراف باتهامهن إنهن من يساعد كل معارض، والحقيقة كل من لم يؤمن بمبادئ البعث وهدّام وزبانيته..

صور من حياة المعتقل.. نتانة المكان الممتلئ بالأمراض، والضرب المبرح بالتحقيق يحمل السجين على الاعترافات عنوة..

صفحات الرواية التي عاشها البطل تحكي قصة شعب كان خلف القضبان، فيما كان الشعراء في أعياد ميلاد الطاغية يقدّمون القصائد.. يهبّون من أقصى الجنوب بكرنفالات الطاعة العمياء الى قصور الطاغوت ببغداد مقابل حفنة دنانير ملوثة بدماء الأبرياء... تسير الرواية بمنحى السرد المُحكم ونسق البناء التتابعي للأحداث التي تمر كشريط سينمائي من محطة الاعتقال إلى عذابات السجن وسنواته الطويلة ثم الإفراج.. انها قصة شعب ذاق الويلات التي للأسف لا يظهرها الإعلام المحلي لا بقنواته الفضائية ولا بصحف الحكومة المنتخبة من الشعب!! ولمحاولات التغافل والنسيان هذه ألف معنى واتهام، يُساق لكل من تقع عليه مسؤولية التذكير بجرائم النظام البائد ووحشيته التي كانت تفوق الوصف والخيال..