لماذا ينكرون النبوّة؟

الباحثة: رجاء محمد بيطار/ لبنان

         {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}[1]

         {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}[2]

         في الآيتين السابقتين يطلعنا الله عزّوجلّ على سرّين من أسرار الإيمان؛ الفطرة السليمة التي تدفع الإنسان إلى الاعتقاد بالربوبية كسياقٍ طبيعيٍّ لفكرة الخلق، والتدرّج نحو الإيمان بنزول الوحي ورسالات الأنبياء المتّصلة بالخالق العادل...

         إنه من الطبيعيّ أن يكون الإيمان بفكرة النبوة محكومًا بالإيمان بالله أولًا، إذ لا معنى لأن يؤمن الملحد بنبيٍّ لا يعرف له مرسِلًا، ومن هنا فإن التسلسل المنطقيّ للإيمان يبدأ من الإيمان بالله، ثم بالرسل والأنبياء الذين أرسلهم ليكونوا واسطةً بينه وبين خلقه، فقد علم جلّ جلاله أن الإنسان بمفرده عاجزٌ عن اكتشاف أسرار الخلق وأسباب السعادة في الدنيا والآخرة، دون أن يكون له في كلّ ذلك موجّهٌ ومرشد، فهو جاهلٌ حتى ببعض أسرار خلقه، فكيف يحيط بما هو فوقه وحوله ودونه؟!

         لقد شهد العالم منذ بدايات الخلق، بشرًا مؤمنين وكفارًا وملحدين، منهم من آمن بالله وأنبيائه واتّبعهم بحقّ، ومنهم من آمن بالله وكفر بالأنبياء، إما لإنكاره فكرة النبوة نفسها، أو لإنكاره نبيًّا بعينه، أما من ألحد في الله فلا ريب أنه ملحدٌ في أنبيائه، وأولئك ليسوا محور هذا الحديث، إذ أننا قد أتينا على ذكر أسباب كفرهم في المقالة الأولى التي ناقشنا فيها بعض أسباب إنكار وجود الله عند الملاحدة، فمن أراد الاطلاع فليقرأ "لماذا ينكرون الله؟" على هذا الموقع المبارك نفسه...

إن منكري فكرة النبوة إذًا ينقسمون إلى قسمين كما أسلفنا، وسنناقش أسباب إنكار كلّ قسمٍ على حدة.

  • منكرو فكرة النبوة: إن من ينكر فكرة النبوة بعدما يكون مؤمنًا بالله خالقًا وربًّا، هو إنسانٌ لم يتهوّر به منطق المادية الجوفاء لدرجة إنكار وجود الله، فظلّ متمسّكًا بوجود قوةٍ عليا تمسك بزمام الكون ويعود إليها الأمر كلّه، ولعل التسمية للإله تختلف عندئذٍ من إنسانٍ لآخر، بحسب عقيدته ومنهجه، ولكن هذا الإنسان عينه لا يرى بعينين اثنتين، بل بعينٍ واحدة، فهو غافلٌ عن أنّ الإيمان بوجود الله يعني أنه قائم فوق خلقه، معتنٍ بشأنهم، يرعاهم ويحبّهم ويتابعهم، فكيف يمكن أن يتركهم سدى، وأن يرى ضلالهم فلا يتدخّل، وأنظمتهم الناقصة فلا يستكملها بعلمه الكامل؟!

إن إنكار فكرة النبوة مخالفٌ بشكلٍ أو بآخر للإيمان بعدالة الله عزّ وجلّ، فالقادر القاهر على عباده لا يتساوى عنده الصالح والطالح، كما أن المجتمع الإنسانيّ قد جرّب من القوانين والشرائع الوضعية عبر تاريخ البشرية ما يفوق العدّ والإحصاء، ولم يكن في كلّ تلك الشرائع ما سدّ حاجته وروى غليله للعدل الكامل، فما كان يراعي حاجات الروح لا يراعي حاجات الجسد، كالشرائع البوذية والهندوسية وغيرها، وما كان يراعي حاجات الجسد لا يراعي حاجات الروح، كالأنظمة الرأسمالية والماركسية والعلمانية، والفراغ الحاصل في كلا الحالين يودي بسعادة الإنسان ويهدم مجتمعه ويزلزل موازين سعادته، فلا تتكامل سعادته الإنسانية روحًا وجسدا، ويبقى يبحث ويبحث...

هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى فإن الإيمان بالله الذي لا يُرى بالعين ولا يُدرك بالحواس، يحتاج إلى سعة فكرٍ وصفاء روح لا يمتلكها الكثيرون، وقد يلتبس الأمر على من أعمت بصائرهم الشهوات، وليس من المؤكّد أنهم يستطيعون الوصول بمفردهم إلى الإيمان الحقيقي بالله...

ومن ناحيةٍ ثالثة، فإن الإنسان الذي لا تحكمه إلا القوانين التي وضعها بشرٌ مثله، قادرٌ بكلّ سهولةٍ أن يغيّر ويبدّل فيها، مدفوعًا بأهوائه أو بآرائه، فيظلم ويعتو... فهل يبقى بلا حساب؟!... إن هذا ينافي عدل ربّ الأرباب...

هنا تجيب تلك الآية القدسية على السؤال بأفضل وأوضح جواب:

{ولو أنا أهلكناهم بعذابٍ من قبله لقالوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولًا فنتّبع آياتك من قبل أن نذلّ ونخزى}[3]

إن هذا الإنسان الذي لا يكاد يعرف إلا القليل، بشأن نفسه وبشأن الكون حوله، وليس علمه إلا ذرةً تسبح في فضاء الكون كإياه، كيف يكون له أن يستخلص بنفسه ودون تدخّلٍ إلهيٍّ، شريعةً وقانونًا حياتيًّا شاملًا يصل به إلى برّ النجاة وسعادة الحياة؟! إن التاريخ شاهدٌ على هذه الحقيقة، وقد ارتقى اليونان والرومان القدماء في علومهم وآدابهم، ولكن فلسفاتهم التي نصّت على تعدّد الآلهة وعلى الكثير من الأوهام الأخرى، انحدرت بأخلاقهم وشرائعهم الاجتماعية لتؤدي بتلك الحضارة إلى الزوال... وها هي الشرائع الوضعية العصرية تحمل في بعض بلاد العالم سعادةً واستقرارًا ماديًّا نسبيًّا للإنسان، إلا أنها غير قادرةٍ على الحدّ من شهواته وتنظيمها وسد فراغه الروحيّ الذي يعانيه!

إن رحمة الله التي خصّ بها عباده حين خلقهم تتمثّل في إرسال الأنبياء لهم، لكي يكونوا حجةً عليهم، فلا يعتذرون عن كفرهم بجهلهم، وبهذا يستكمل الله الحجة على البشر، فيرسل لهم من يهديهم سواء السبيل، ويكون اختيار الله للأنبياء من أفاضل البشر، قومًا صادقين معروفين لدى أقوامهم بالزهد والمعرفة والسمو الأخلاقيّ، جديرين بالاتباع والتصديق، وبذا تكتمل الصورة ويعرف الإنسان ما خفي عليه من أمر دنياه وآخرته...

فلماذا ينكر المنكرون إذًا؟!

إن كانوا ينكرون لجهلهم بكلّ ذلك، فدور الرسل أن يطلعوهم، وإن كانوا يرفضون فكرة أن يتلقى إنسانٌ عاديٌّ الوحي من الإله، {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أُرسل إليه ملكٌ فيكون معه نذيرا}[4]، فقد ردّ عليهم القرآن الكريم بقول الله عزّ وجلّ: {قل لو كان في الأرض ملائكةٌ يمشون مطمئنّين لنزّلنا عليهم ملكًا رسولا}[5]... إن الرسول يكون من جنس المرسَل إليه، ليتمكّن من فهمه والتفاهم معه، وبالتالي فإن حجتهم باطلة، وما أراد الله إلا أن يُفهم الإنسان ويهديه سواء السبيل.

  •  منكرو نبوة البعض من الرسل: وهؤلاء سيكونون بإذن الله محور مقالتنا التالية التي سيكون عنوانها: "لماذا ينكرون محمّدًا (صلى الله عليه وآله)؟

 

* المقالة الثانية في سلسلة مقالات عقائدية تجيب عن أسئلة الإنكار العقائدي التي يواجهها المجتمع الإنساني.

 


[1]  سورة الأ‘عراف الآية 172

[2]  سورة البقرة، الآية 285

[3]  سورة طه، الآية 134

[4]  سورة الفرقان، الآية 7

[5]  سورة الإسراء، الآية 95