لماذا ينكرون الله؟

رجاء محمد بيطار/ لبنان

 

         "البعرة تدلّ على البعير، والروثة تدلّ على الحمير، وأثر القدم يدلّ على المسير، فهيكلٌ علويٌّ بهذه اللطافة ومركزٌ سفليٌّ بهذه الكثافة كيف لا يدلّان على اللطيف الخبير؟!"[1]

         بهذه العبارة التي أطلقها أمير المؤمنين عليه السلام قبل ألفٍ وأربعمئة عام، اختصر لنا قانونًا من أهمّ قوانين الخلق وأكثرها بديهيةً وبساطةً وتعقيدًا في الوقت عينه، وهو قانون السببية... ذاك القانون الذي تُبنى عليه الأفكار، من أصغرها لأكبرها، بل إنه لا يصلح التفكير إلا به، فهو تلك الحلقة المتّصلة التي تربط بين الأشياء في فكر الإنسان، وتلك العلاقة اللامرئية التي تكرّس مبدأ أن لكلّ نتيجةٍ سببا، وأن لا شيء يكون بلا مكوّن، وهكذا...

         العبارة تخاطب إنسان الصحراء البدائيّ، كما تخاطب إنسان العصر الفضائيّ، فجميعنا يعلم أن الأشياء لا تأتي من العدم، وأن مفتاح العلوم الكونيّة كلّها قائمٌ على هذا التواصل الفكريّ بين الإنسان والموجودات الأخرى، إذ صار يستنبط من كل ما يراه حقائق أخرى أبعد مما يراه، منها ما استطاع أن يلمسه ويتحسّسه، ومنها ما لم يفعل، ومع ذلك استمرّ يعتقد بوجوده، لأنه يعلم واثقًا أن الدلائل تشير إليه...

ومن هنا كان الاعتقاد بوجود الله أمرًا حتميًّا، يترافق مع أبسط فكرةٍ يمكن أن تطرأ على بال إنسان، ويتعاظم مع أعقد فكرة، بحيث أن زيادة العلم بالكون يوطّد هذا الاعتقاد ويدعمه ويزيده ثباتا، وقد قال "فرانسيس بيكون" أحد أبرز فلاسفة وعلماء الغرب: "قليلٌ من العلم ربما يجعلك ملحدًا، فإذا تعمّقتَ آمنتَ بالله"... إن هذه المقولة ربما ترمز إلى أن قليلًا من العلم يجعل صاحبه مغترًّا بعلمه فيكون عرضةً للإلحاد بسبب جهله، أما التعمّق فيكشف له الحقائق ويجعله يعرف حجم علمه مقابل القدرة الإلهية اللامتناهية...

وبالعودة إلى حديث الإمام عليه السلام، نجد أنه قصد أن يعطي مثالًا لأمرٍ شديد البساطة والتفاهة (البعرة تدلّ على البعير والروثة تدلّ على الحمير) ثم أتبعه بمثال شديد العمق والتعقيد ("فهيكلٌ علويّ بهذه اللطافة ومركزٌ سفليّ بهذه الكثافة")، ليقول لنا أن من الغرابة بمكانٍ أن نجزم بسببٍ للمظهر البسيط الأول ولا نجزم بسببٍ للمظهر المعقّد الثاني...

إمام المتّقين والعلماء ضرب لنا مثلًا يفهمه الجاهل والعالم، وما أراد إلا التدليل على بديهية هذا الاعتقاد الذي راح يجادل فيه بعض المشكّكين والدهريين، بدون سببٍ وجيه، فأراد الإمام أن يكشف عنه لكل ذي فكرٍ حرٍّ نبيه.

هنا نعود إلى سؤالنا الأول: لماذا ينكرون الله؟!

إن المعرفة بالله هي أولًا أمرٌ بديهيّ، يبدأ بفطرة الإنسان التي فطره الله عليها، إذ قال نبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: "يولد المولود على الفطرة..."[2]، أي أنه يعرف الله بفطرته، مصداقًا لقول الله تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم  ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون}[3]، ثم هي ثانيًا أمرٌ منطقيّ، يوافق التفكير المنهجيّ العلميّ السليم، حيث تتدرّج الأمور من النتائج إلى الأسباب بشكلٍ حتميّ، وتنتج عن التأمّل في خلق الله معرفةُ الخالق جلّ وعلا... على أن هناك مرتبةً في هذه المعرفة ترقى فوق هذه وتلك، وهي المعرفة اليقينية المباشرة التي أشار إليها الإمام الحسين عليه السلام في دعائه يوم عرفة: "كيف يُستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقرٌ إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهِر لك؟" متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟"[4] وقول أمير المؤمنين عليه السلام وقد بلغ غاية المعرفة اليقينية: "لو كُشف لي الغطاء ما ازددتُ يقينا"[5]... على أن هذه معرفةٌ لا يُلقّاها إلا ذو حظٍّ عظيم، ولا يبلغ مرتبتها إلا من بلغ المنتهى في تزكية نفسه ومعرفة ربه... ولنا أن نكتفي مع البشر العاديين بمرتبةٍ دونها، وهي مرتبة المعرفة التعليلية.

وهنا يبرز السؤال المحوريّ: أن كيف يمكن للإنسان الذي زرع الباري معرفته والتعرّف عليه في فطرته وجبلها في طينته، ثم زاد بأن جعلها مفتاح فكرته وباب علّته، كيف يمكن له أن ينكر هذه المعرفة وهي أقرب إليه من حبل الوريد؟! بل لماذا يفعل ذلك، ولا مبرّر يسوّغ له هذا الإنكار؟!

لقد تذرّع المنكرون بذرائع وهميّة، فهم تارةً يقطعون وبلا بيّنة، بأن كلّ موجودٍ ينبغي أن يكون محسوسًا، ثم يقعون في المغالطة إذ يصطدمون بأرض الواقع، حيث يضطرون للاعتراف بموجودات شتى غير محسوسة، كـ"الفكرة" مثلا، وطورًا يبنون إلحادهم على نظريّاتٍ علمية، هي من إلحادهم بريئة، فالعلم دراسةٌ وقياسٌ لظواهر الكون الماديّة المحدودة، وهو لا يتطرّق إلى عالم اللا محسوسات واللا ماديّات، فإن فعل فقد دخل في غير ما وُضع له... ثم هم يتطفّلون ويتجرّؤون أحيانًا، فيدّعون أن فكرة الله قد انقرضت، وأنها قد مضت الحاجة إليها، وقد فاتهم أنهم لا يعلمون شيئا، ولم يصلوا إلى شيء، وأنهم {لا يحيطون بشيءٍ من علمه إلا بما شاء}[6]، وأنهم في هذا الكون الواسع أقلّ من ذرةٍ لا متناهية الصغر...

على أن هذا الإنكار ليس وليد الساعة، ولا اليوم أو السنة أو القرن، بل هو وليد الجهل الذي يريد الإنسان أن يستتر خلفه ليتّبع أهواءه، مذ كان حتى الساعة...

بلى، فوجود الله أمرٌ حتميّ لا جدل فيه عند ذو عقل، ولكن المنكرين الذين لم يخلُ منهم عصر، منذ كان الأنبياء حتى اليوم، والذين يتذرّعون بشتى الأعذار الواهية، ليس لادّعائهم إلا مبرّرٌ واحد: إن وجود الله يفرض عليهم الانصياع لأوامره ونواهيه، وما يستتبع ذلك من التزامات، وهم قومٌ يرغبون في العيش على هواهم، لا يريدون أن يلتزموا بقواعد وقوانين تحدّد لهم حريّاتهم غير المشروعة، وهذا ما يريدون الهروب منه، فإذا هم يهربون منه إليه...

إن قضيّةً بهذا الوضوح، وإنكارٌ بهذه الوقاحة، لا مبرّر لهما إلا هذا... ولئن كان هناك شكٌّ لدى البعض في إمكانية وجود عذرٍ لهم، فلينظروا جميعًا إلى ما قاله أبناء جلدتهم، وما وصل إليه إخوانهم في الحضارة، إذ أتى منهم من يعلن على الملأ، عبر ذاك الكتاب الذي صدر مؤخّرًا في باريس، والذي خطّته أقلام وعقول عشرين فيلسوفًا وعالمًا غربيًّا، بعضهم حائزٌ على جائزة نوبل:

DIEU LA SCIENCE LES PREUVES[7]  (الله، العلم، البراهين)...

فقد قال ذاك الكتاب ما حاول البعض أن ينكره، وأكّد بالدليل القاطع أن "العلم يبرهن على وجود الله"!

وهنا نقول: أيها المنكرون لوجود الله، الكافرون بنعمته، لقد خاطبكم الله في محكم كتابه محذّرا فاعتبروا: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوةً وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}[8].

 


[1]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج3، ص55

[2]  بحار الأنوار، ج64، ص133

[3]  سورة الروم، الآية 30

[4]  بحار الأنوار، ج64، ص142

[5]  بحار الأنوار، ج40، ص153

[6]  سورة البقرة، الآية 255 (آية الكرسي)

[7]  صدر هذا الكتاب عن الناشر تريدانيال، باريس، في تشرين الأول أوكتوبر من العام الماضي 2021م

[8]  سورة الروم، الآية 9