مظاهر التسامح في الخطـــاب النبــوي

إعداد: م . د . مرتضى عبد النبي علي الشاوي 

القرنة /جامعة البصرة/ كلية التربية / قسم اللغة العربية

يراد من التسامح في الشيء في المعنى اللغوي ، التساهل فيه ، والمسامحة هي المساهلة والتَّساهُل هو التسامُح واسْتَسْهَلَ الشيءَ عَدَّه سَهْلا،

 على الرغم من أن العربية  لا تنطوي على مفهوم واضح للتسامح بالمعنى المعاصر للكلمة . غير إنّ التسامح نابع من السماحة، وهو اعتراف بثقافة الآخر، وتفاهم جماعي متبادل بين مختلف الفئات والشعوب .

لقد كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ينطلق في تعامله مع الناس كافة على أساس كلهم كأسنان المشط، وكلهم من آدم وآدم من تراب إمّا أخوك في الدين أو أخوك في الخلق، كما ذكرها امير المؤمنين(عليه السلام) على الرغم من الاختلاف، فالتعارف هو التعامل الحسن كما في قوله تعالى:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )(الحجرات/13)

وقد جاء الخطاب النبوي صريحاً على أن لا فرق بين الناس إلا بالتقوى، وهو المعيار العام كما جاء في أقوال الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد حرصت السنة النبوية إبراز تلك الجوانب في المسامحة الإنسانية:

- قوله:(إنّ ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ودينكم واحد، ونبيكم واحد، ولا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي، ولا أحمر على اسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى)(1)

- قوله:(إنّ الناس من آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لأفضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود إلا بالتقوى)(2).

- (يا أيّها الناس إنّ العربية ليست بأب والد، وإنما هو لسان ناطق، فمن تكلم به فهو عربي، ألا إنكم ولد آدم، وآدم من تراب، والله لعبد حبشي أطاع الله خير من سيد قرشي عاص لله، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم)(3)

وقد بيّن الخطاب القرآني الكريم معالم  شخصية الرسول الأعظم محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) كما أشارت الآيات الكريمة إلى تلك المعالم الحميدة والصفات الفاضلة:

- ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا )(الأحزاب/21)

- (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى)(الضحى/6)

- (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)(الكهف/6)

- (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (التكوير/19-21)

- (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ )(الشورى/15)

- (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)(التوبة/128)

- (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(آل عمران/159)

- (طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى)(طه/1-2)

- (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القلم/4)

وفي هذا مدعاة إلى الانفتاح على الإنسان مهما كانت درجة علاقته بك أو عدم علاقته فهو إنسان قبل كلّ شيء، وإنّ هناك أكثر من مشترك بينك وبينه ويكفيان أن يكون إنساناً، وليس مخلوقاً من جنس آخر؛ لكي تحبه، وتحاوره، وتقلص من مسافات البعد والخلاف بينك وبينه(4).

وتظهر في صحيفة المدينة التي أعلنها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حين دخل يثرب الاسم الأول للمدينة المنورة، مدى الحرص على إقامة مجتمع مدني متسامح، تنفتح فيه الجماعات على بعضها تفاعلاً، وتبادلاً بدون عنف أو قسر ففي أول خطاب ألقاه الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قال:(فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنّ بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف)(5).

وقد جاء في وصيته(صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين(عليه السلام) تأكيد على هذه الثقافة الإنسانية:(يا علي سيد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك من نفسك ومساواة الأخ في الله وذكر الله على كل حال)(6)،

 وكذلك  قوله:(يا علي: ثلاث من أبواب البر: سخاء النفس، وطيب الكلام، والصبر على الأذى)(7) وكذلك الابتعاد عن الشتم كما في وصيته لمعاذ بن جبل (وإياك أن تشتم مسلماً)(8)، والتنبيه على سؤ الخلق شؤم(9).

وكذلك المداراة كما في قوله:(مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش)(10)، والترغيب في حسن الخلق فهو يثبت المودة (11).

ومن ذلك كتاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كتبه بين المهاجرين والأنصار لموادعة اليهود التي تتضمن كثير من العهود والمواثيق والإقرار على الدين والأموال فيما بينهم(12).

فضلاً عن المؤاخاة التي آخ فيها الرسول بين الأنصار والمهاجرين وهي أولى  بوادر الألفة والمحبة والتسامح والتعايش الاجتماعي بحسب قوله(s):(تآخوا في الله أخوين أخوين)(13)، فكان الإمام علي  أمير المؤمنين(عليه السلام) أخاً لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)  بقوله(هذا أخي).

وللرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث جمّة في آداب معاشرة، تدخل في ثقافة التسامح والتعايش الاجتماعي بين أبناء الأمة الواحدة أو مع أقوام آخرين، فقد كان يحذر المؤمنين من شرار الناس  بقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): (ألا أنبئكم بشرار الناس؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من نزل وحده ومنع رفده، وجلد عبده، ألا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: من لا يقبل عثرة ولا يقبل معذرة ثم قال: ألا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره. ثم قال: ألا أنبئكم بشر من ذك؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من يبغض الناس ويبغضونه)(14)، وفي هذا النص النبوي درس كبير عالي المضامين على التسامح، والتأكيد على صفات الأشرار لتجنبهم  والابتعاد عنهم.

وقد تجلى في الخطاب النبوي  كثير من الفهم الحقيقي للإحترام، فالأخوة الإسلامية نابعة من صميم الأبوة المحمدية، إذ قال في خطبة الوداع:(أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمنّ أن كل مسلم أخ للمسلم وان المسلمين أخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمنّ أنفسكم اللهم هل بلغت)(15).

فليس هناك أيّ لون من التعصب لدى الناس فهم أخوة في الإنسانية والإسلامية، وقد حذّر الرسول الكريم من التعصب والعصبية.

إذ روي عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) أنّه قال:

 قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم):(من كان في قلبه حبة خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة من أعراب الجاهلية)(16)

==================================================

1)كنز العمال ، ح  5652 : 3 / 173

2)بحار الأنوار:  ج 7 /  239

3)المصدر نفسه : ج 7 /  239

4)الفهم الحضاري للخطاب القرآني وأثره في المجتمع العراقي الحديث ، د. شلتاغ عبود ، مجلة المبين ع 1 ، نيسان سنة 2005م  : 143 .

5)سيرة النبي ( ص ) أبو محمد عبد الله بن هشام  : ج 2 / 65 ، و دلائل الخيرات في كلام سيد السادات : 12 .

6)تحف العقول عن آل الرسول : 28

7)المصدر نفسه : 29

8)المصدر نفسه : 46

9)المصدر نفسه : 64

10)المصدر نفسه : 62

11)ينظر : المصدر نفسه : 65

12)ينظر : سيرة ابن هشام : 2 / 66-67

13)المصدر نفسه : 2 / 68

14)تحف العقول : 47 .

15)سيرة ابن هشام : 4 / 147.

16)الأصول من الكافي   باب العصبية ح 3 : 2 / 439