التعريف بسيّد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) في زيارته

سأل يونس بن ظبيان الإمام الصادق (عليه السلام): «جُعلت فداك، إنّي كثيراً ما أذكرُ الحسينَ (عليه السلام)، فأيّ شيءٍ أقولُ؟ فلما آنس منه الإمام (عليه السلام) هذا الاستعداد، قال: «قل: صَلَّى اللَهُ عَلَيْكَ يَا أَبَا عَبْدِ الله، تعيدُ ذلك ثلاثاً».

ثمّ قال يونس: «جُعلت فداك، إنّي أُريد أن أزوره، فكيف أقول؟ وكيف أصنع؟

قال (عليه السلام): إِذَا أَتَيْتَ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) فَاغْتَسِلْ عَلَى شَاطِئِ الفُرَاتِ، ثُمَّ البَسْ ثِيَابَكَ الطَّاهِرَةَ، ثُمَّ امْشِ حَافِياً؛ فَإِنَّكَ فِي حَرَمٍ مِنْ حَرَمِ الله وحَرَمِ رَسُولِه، وعَلَيْكَ بِالتَّكْبِيرِ والتَّهْلِيلِ والتَّسْبِيحِ والتَّحْمِيدِ والتَّعْظِيمِ لله عز وجل كَثِيراً، والصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وأَهْلِ بَيْتِه».

والمهم هنا: قوله له: «ثُمَّ امْشِ إِلَيْه حَتَّى تَأْتِيَه مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَاسْتَقْبِلْ وَجْهَكَ بِوَجْهِهِ، وتَجْعَلُ الْقِبْلَةَ بَيْنَ كَتِفَيْكَ، ثُمَّ قُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا حُجَّةَ الله وابْنَ حُجَّتِهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا قَتِيلَ الله وابْنَ قَتِيلِهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ثَارَ الله وابْنَ ثَارِهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَتْرَ الله المَوْتُورَ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ»([1]).

ثمّة ضربان من السلام: الأوّل سلام عام، ثمّ تلاه سلام خاص.

منصب خاص بسيد الشهداء عليه السلام

السلام الأوّل هو سلام عام، والثلاثة الأُخرى خاصّة. . ومن هنا فإنّ الحكمة والمعرفة ولباب العلم كامنة في كلام أئمّة الدين (عليهم السلام)، ولا يستطيع العقل البشري أن ينال قبساً من شمس تلكم الكلمات، حتّى تسعفه النظرة الإلهيّة، وتمتد إليه يد العون منه تعالى.

السلام الأوّل هو: «يَا حُجَّةَ الله وابْنَ حُجَّتِه»، وهو يمثّل صفة عامّة تنسحب على سائر الأئمّة (عليهم السلام)، أمّا ما بعده، فهو منصب خاص، لا يشاركه فيه أحد، حتّى أبوه (عليه السلام)، فما هو ذلك المنصب؟

إنّه: «قَتِيلُ الله وابْنُ قَتِيلِه». .

فليس في عالم الخلقة من يحمل هو وأبوه مثل هذا العنوان من عالم الغيب: قتيل الله، وأبوه كذلك قتيل الله، فتتجسّد لطافة التعبير في قوله: «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا قَتِيلَ الله وابْنَ قَتِيلِه». . وما يضفي على هذا السلام خصوصية هو: أنّ للحسين (عليه السلام) سمتين لم تجتمعا لأبيه من قبل، هما: أنّه (عليه السلام) قتيل الله وابن قتيله، وأنّه ثار الله وابن ثاره أيضاً، كما أنّه وتر الله الموتور في السماوات والأرض.

مَسكن دم الامام الحسين عليه السلام

هاهنا موضع يُحار فيه الكُمَّل؛ فبعدما جاء الإمام (عليه السلام) على ذكر تلك المناصب الثلاثة، أردف قائلاً: «أَشْهَدُ أَنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الخُلْدِ، واقْشَعَرَّتْ لَه أَظِلَّةُ العَرْشِ، وبَكَى لَه جَمِيعُ الْخَلَائِقِ».

علينا أن نعي أوّلاً ما الذي حدث ليسكن دم الإمام (عليه السلام) الخلد؟ إنّ الخلد موضع التجرّد، فلو سكنت الروح الخلد فذلك على وفق الأصل، وأمّا لو انقلبت الحال وصارت الروح أسمى من الخلد بينما صار الخلد مسكناً للدم، فإنّ ذلك فوق إدراك البشر وعقولهم، ومعنى هذا الكلام: أنّ الحسين (عليه السلام) بلغ من المنزلة موضعاً بحيث لا يسع الخلد سوى أن يكون مسكناً لدمه الطاهر، ليت شعري فأين تسكن روحه؟ ذلك ما ينبغي أن نبحث عنه.

«أَشْهَدُ أَنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الْخُلْدِ». . وتتلو تلك السكنى قشعريرة، وأيّ قشعريرة هي! «واقْشَعَرَّتْ لَهُ أَظِلَّةُ العَرْشِ»؛ إنّ دمك يا حسين قد سكن الخلود، ولكن اقشعرّت له أظلّة العرش، ولا يخفى أنّ نسبة السكن إلى الدم، والقشعريرة إلى أظلّة العرش، ممّا يحتوي على أبحاث صاخبة.

ثمّ يلي هاتين العبارتين قوله (عليه السلام): «وبَكَى لَه جَمِيعُ الْخَلَائِقِ». . فأين المفكّرون؟ أين المتأمّلون؟ أين ذووا الأنظار الدقيقة؟ ليلتفتوا إلى أنّ الإمام أضاف كلمة: «جميع» على كلمة «الخلائق»، مع أنّ الخلائق جمع محلّى بالألف واللام، ثمّ فصّل هذا الإجمال قائلاً: بكت لذلك الدم السماوات السبع والأرضون السبع...فأين محل الإمام نفسه؟ فالحديث كلّه كان عن الدم، وهو ما يجري في العروق، أمّا الروح المتعلّقة بهذا البدن، فهي شيء آخر، ولها بحثها الخاص.

أظلّة العرش تقشعر وجميع الخلائق تبكي

لمّا سكن دمك هناك اقشعرّت له أظلّة العرش، وبكت له جميع الخلائق، كما بكته ـ بحسب تعبير الإمام (عليه السلام) ـ السماوات وأهلها والأرضون وأهلها، والمهم أن نعرف من أين بدأ التأثير والتأثّر في محوري الصعود والنزول؟ وأين انتهى؟ حيث أظهر الإمام (عليه السلام) ما يشبه معجزة شقّ القمر في مجال العلم والمعرفة لذوي الفقه الأكبر، حيث إنّ الإمام الصادق (عليه السلام) لم يعرّف أبا عبد الله (عليه السلام) بنفسه، بل عرّفه بدمه؛ ليفهم من هو أهل الفهم بأنّ الدم إن علا حدَّ الوصف فأين تكون حدود صاحبه ورتبته؟

انقلاب قوسي النزول والصعود

لقد أحدث هذا الدم انقلاباً، ابتداء من قوس الصعود، وانتهاء إلى قوس النزول، راجعوا كتاب «الكافي» بعين الدقّة والتحقيق، ومن الزاوية التي أشرت إليها. . يقول علّامة الوجود الإمام جعفر بن محمّـد الصادق (عليه السلام) في مقام التفصيل بعد الإجمال هذه الكلمات: «لَمَّا قَضَى بَكَتْ عَلَيْه السَّمَاوَاتُ... ومَنْ يَنْقَلِبُ فِي الجَنَّةِ والنَّارِ مِنْ خَلْقِ رَبِّنَا»، إنّ الانقلاب قد طال كلاً من قوسي الصعود والنزول معاً، فمن أعلى درجة في قوس الصعود، إلى أدنى نقطة من قوس النزول، لم يتمالك أحدٌ نفسه إزاء هذا الدم، فيا لها من ضجّة!

ولم يكتفِ الإمام (عليه السلام) بهذه الكلمات، بل أردفها بكلمة يجب أن يفهم كلُّ حيّ يُرزق ما يُراد منها، ليعرف حقيقة ما حدث، فهو يقول (عليه السلام): ومَا يُرَى ومَا لَا يُرَى بكت على دمك، فما تقع عليه العين وما لا تقع قد بكى على دم الحسين (عليه السلام). 

فأيّ واقعة هي واقعة عاشوراء؟ لقد بلغت قضية الإمام الحسين (عليه السلام) من المكانة بحيث لا يذكر اسمه (عليه السلام) تأدّباً إلّا مقروناً بأحد الألقاب، سيّد الشهداء، إمام الأولياء، أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام):

لو طُهِّر الفم ألف مرّة بماء الورد               يبقى ذكر اسمك مجرّداً منتهى الوقاحة

 

إضافة الفاني إلى المفنيّ فيه

إذا تسنّى لي فسأزيح الستار بمقدار ما يتيسر عن هذه الكلمة: «أَشْهَدُ أَنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الْخُلْدِ»، وينبغي أن يكون ذلك ضمن سياق برهاني، فليس المقام هنا مقام خطابة.

إنّ إضافة النكرة إلى المعرفة تغيّر حال النكرة، فإنّها تكتسب التعريف من المضاف إليه، وتلك هي الميزة العلمية للإضافة، فإن كان المضاف إليه فوق مستوى التعريف، فمثل هذه الإضافة تجعل من المضاف فوق مستوى التعريف كذلك.

والكلمة الأولى التي ذكرتها ـ من أنّ الحسين بن علي (عليه السلام) فوق مستوى التعريف ـ كلمة برهانية، والدليل عليها أنّ الإضافة تمنح النكرة التعريف من جهة استدلالية، فتكتسب النكرة كلّ ما للمضاف إليه من خصوصيات، فإن كان طرف الإضافة (المضاف إليه) فوق مستوى التعريف يكون المضاف كذلك، تلك هي ميزة الإضافة.

أحياناً تكون الإضافة فنائية، فإن كانت من قبيل إضافة الفاني إلى المفنيّ فيه، تنتقل حينها أحكام المفنيّ إلى الفاني، وتظهر عليه آثاره، وهذه هي نتيجة الإضافة الفنائية.

من كتاب مصباح الهدى وسفينة النجاة لآية الله العظمى الشيخ وحيد الخراساني (دام ظله)

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

 


([1]) الشيخ الكليني، الكافي: ج4، ص575؛ ابن قولويه، كامل الزيارات: ص363؛ الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام: ج6، ص55؛ العلّامة المجلسي، بحار الأنوار: ج98، ص151.

([2]) البيت بالفارسية:

هزار مرتبه شستن دهان به عطر وگلاب        هنوز نام تو بردن كمال بى ادبى است