الحكم العلماني والديني

د. سعد عبد الحسين       

لقد شاع في الوقت الحاضر ذكر مصطلح العلمانية والدولة العلمانية والدين والدولة الدينية، ولابد للناس من فهم هذه المصطلحات والجدل القائم بين رجالات العلمانية ورجالات الدين في الماضي والحاضر . مصطلح العلمانية نشأ في الغرب مع الثورة العارمة للشعوب الغربية ضد حكم الكنيسة الكاثوليكية التي حكمت هذه الدول لقرون واذاقت الشعوب الاوربية الويلات.

والعلمانية كمصطلح معناها ان يحكم  الشعب اناس من عامة الناس. مثقفين متعلمين وليس لديهم تعصب ديني ولا يحكمون باسم الدين. وهنا لابد من معرفة لماذا نقمت الشعوب الأوربية على حكم الدين ورجال الكنيسة وطالبوا بإبعاد الدين عن الحكم والسياسة. الاسباب تعود كما يلي:

1. رجال الكنيسة حاولوا ان يسيسوا ويجعلوا الدين وسيلة لتدجين الشعوب. فأوحت الكنيسة للشعوب ان الملك بأمر الله ويقوم بمقام مقدس ويجب ان لا يعترض عليه الناس. حكمها هو حكم الله وطاعتها هي طاعة الله. لذلك حصل تحالف بين الطبقة الحاكمة ورجال الكنيسة، هؤلاء يدعون الناس للصبر وطاعة الملك وعدم الثورة والانتفاضة عليه. وهؤلاء يصفون القساوسة بصفات الوقار والتبجيل. فأصبح الدين يخدر الشعوب ويطفئ فيها نار الثورة ضد الظالمين والظلم. وهذا بالفعل ما حدث في الدول الغربية.

2. الكنيسة الكاثوليكية تصدت للعلماء وحركة الاكتشافات العلمية التي هزت ايمان وبعض المرتكزات الايمانية للشعوب. لذلك حكمت بالإعدام والحرق على بعض العلماء مثل غاليلو وأينشتاين لانهم خلخلوا ايمان الشعب حسب ادعاء الكنيسة. فذاك يقول ان الارض كروية وذاك يقول ان اصل الانسان قرد ثم تطور  وذاك يقول بوجود الجاذبية الارضية. لذلك انصدمت الكنيسة من كثرة الاكتشافات العلمية ووقفت ضد التطور العلمي.

3. بعض قساوسة الفاتيكان استغلوا سذاجة الشعوب واوجدوا صكوك الغفران التي بدأت الكنائس بالترويج  لها لغرض بيعها حيث يعطون الانسان ورقة تدخله الجنة، وهو معفي و مغفور له اذا ما دفع ثمن هذه الورقة او الصك. لهذا انتفض مارتن لوثر (Martin Luther)  وثار ضد هذه الحركة وأسس مذهب جديد سُمي مذهب الرفض البروتستانت (protestant) واعتبر هذا التحرك انشقاق عن تقاليد الكنيسة الكاثوليكية ونشأ صراع طائفي بين البروتستانت والكاثوليك.

بعد الثورة الصناعية والثورة الفرنسية تحررت الشعوب واتفق الاوربيين على ان يبعدوا رجال الدين عن الحكم واتفقوا على قيام حكومات علمانية اي يحكمها عامة الناس. واتفقوا ايضاً على حصر رجال الكنيسة في الفاتيكان وجعلها دولة رمزية فيها القس الاعظم وتحكم نفسها باسم الدين، والكل تحترم تقاليد الكنيسة او الحبر الاعظم وتبجله فهو خليفة السيد المسيح (عليه السلام) على ان لا يتدخلوا في الشؤون السياسية للبلاد.

وان نأتي الى سحب هذا المفهوم الى الاسلام كدين ودول اسلامية وحكومات. فهناك فرق شاسع بين الديانة المسيحية والديانة الاسلامية. الديانة الاسلامية تمثل آخر منظومة إلهية تنظّم اخلاق الفرد والاسرة والمجتمع والدولة والانسانية جمعاء.

وهي آخر اطروحة إلهية لتنظيم حركة عباد الله على ارض الله بما يضمن لهم سعادة الدنيا والاخرة. الاسلام فيه تنظيم لكل شيء يحتاجه الانسان والمجتمع في الحياة. وفيه تنظيم للاقتصاد والسياسة والعلاقات على مستوى الافراد او الشعوب.

لهذا قال رب العزة في محكم كتابه العزيز: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)) [ المائدة :3]

الله تعالى ختم دينه بالإسلام وجعله منهاج للحياة البشرية، بعد ان وضع في تشريعاته معالجات لكل ما تحتاجه البشرية الى يوم القيامة، لهذا هو الدين الخاتم، ولو علم رب العزة ان البشرية سوف تتولد لها احتياجات جديدة للتشريع لما ختم الديانات بالدين الاسلامي.

فقال رب العزة في محكم كتابه الكريم: ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)) [ ال عمران :19]

((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)) [ ال عمران :85]

الاسلام عندما يحكم الحياة فهو لتحقيق مصالح الشعوب والافراد وتخليصها من عدوين هما:

1. عداوة الشيطان الذي يريد غواية الناس ليوردهم النار وينغص عليها سعادة الدنيا والاخرة. ويفشلهم ويجعلهم لا يطيعون  اوامر الله تعالى كما فعل هو، وبذلك يكونون معه من الخاسرين لذلك قال الله تعالى ((إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)) [ فاطر :6]  اي احذروا من الشيطان الذي يريد ان يفشلكم في الحياة الدنيا ويوردكم النار يوم القيامة.

2. عداوة حكام الجور والطغيان والظلم الذين يبعدون الناس عن عبادة الله الواحد القهار وينصبون انفسهم كالآلهة التي تعبد. يجعلون الشعوب تخشاهم وتخافهم اكثر من خوفهم من الله تعالى، يجعلوهم يطيعونهم بالمنكر ويعصون تعاليم الله عز وجل لذلك يوردوهم المهالك ويجعلون شعوبهم تدفع أثمان وخيمة اتجاه مغامراتهم واحزابهم وحروبهم وتفاهاتهم وافكارهم.

وهذا هو التاريخ البشري ممتلئ بمثل قصص هؤلاء الظلمة وشعوبهم  وما تركوا خلفهم من ويلات...

فلَكَ ان تقرأ ويلات هتلر وموسوليني وستالين، واقرأ ويلات صدام حسين في العراق وانظر الى نهج هؤلاء الذي هو نهج واحد وهو إضلال العباد وتدمير البلاد وسحق الشعوب واذلالها.

الاسلام عندما يفتح بلاد او يحكم بلاد فهو يحررها من شياطين الانس والجن ويسعى لإسعاد الناس في الدنيا و التخطيط لإسعادهم في الاخرة. أذن الانسان هو الهدف من الدين. والدين حريص على ان يسعد الناس سعادتين:

1. سعادة الدنيا حيث يجعل حياة المؤمن رحلة الى الله تعالى.

2. سعادة الاخرة ليحول كل حركة من حركات الانسان في الحياة الى عبادة. صلاته ،علمه، عمله ، زواجه، علاقاته... كل هذه المفردات يحولها الاسلام الى جهاد وعبادة لله تعالى اذا اُديت بنيّة القربى الى الله تعالى. وبهذا المنظار سيغلف الدين كل مجالات حركة الانسان في الحياة.

وهكذا يجب ان نحترم تعاليم الدين الاسلامي دون ان نجعلها تتقاطع مع مصالح الشعوب. بالآليات  الديمقراطية سوف يصوت الشعب بالانتخابات ليختار نمط الحكم ونوع الحكم ورجالات الحكم.

وهكذا اراد الله تعالى الحياة، ارحام تدفع وأرض تبلع... وما بين الولادة والممات توجد صراعات كثيرة وتدافعات واختلافات لولاها لوقفت عجلة الحياة ولما تطورت البشرية...

كل هذه التدافعات تثري الفكر البشري والتجربة الانسانية شريطة ان لا يتحول النقاش الى حروب وصراعات. وشريطة بقاء الاحترام والانفتاح واحترام الرأي والرأي الاخر ... وشريطة ان تتقاطع الآراء ولا تتقاطع القلوب.

ان اهم سمة تميز الالفية الثالثة third millennium))  هي الديمقراطية والانفتاح والنقاش المفتوح بين الحضارات والثقافات والاديان والمذاهب. هذه الحالة لم تكن موجودة قبل ثلاثين عاماً.

 الان توجد مئات بل آلاف المجلات والجرائد والقنوات الفضائية لتوصل الآراء للمواطنين وهم داخل بيوتهم. هذا الارتفاع الفكري رغم بعض سلبياته الا انه يثري التجربة الانسانية وينضج الفكر الانساني، ليؤشر له حقيقة قائمة و واضحة وضوح الشمس تقول لا ينفع البشر الا شرع الله تعالى. ولا سعادة الا بالايمان بالله تعالى.