مظفّر النواب صوت الرفض الحسيني

صباح محسن كاظم 

جميع الثائرين على خطى الإمام الحسين عليه السلام النبراس والقنديل المضيء بشرفات الأزمنة والتاريخ، لِينهل من جذوة نهضته من سار على دربه في التصدي والرفض ومقاومة  الباطل، فكل الأحرار بمشارق الأرض ومغاربها سيد الأحرار رمزهم.. كعبة الحرية يلوذ به كل من يروم المجد، لذلك لا نجد ثورة إلا الحسين رائدها، ولا توجد قصيدة تثير الأحرار إلا ومن قبس الحسين وهجها..

إيقونة الشعر المتمرد، يمثل له الانتماء للحسين هوية، وعليّ عنوان المجد بعدلهِ، وهيبته، وفروسيته وزهده المذهل عنوانه بالرغم من الانحدار الارستقراطي بالكاظمية من عائلة ثرية، دأبت على إقامة المآتم ومساندة المواكب والطقوس الحسينية، شكلت لديه الحافز بالتصدي للنظم الدكتاتورية والطغاة كرسالة سيد الشهداء بعدم الركون للظالمين، لذا تعرض للسجن، للتشريد، للملاحقة، فصارَ ينتقل من بلد إلى بلد بين الدول العربية والأوربية، حاملاً تلك القصائد التي هي سياط على رؤوس الطغاة، يعنفهم، يذلهم، يجعل الشعوب تتحرك لا تكون ساكنة محايدة بلا موقف لذا "النواب" أراهُ أهم شعراء القرن بالقصيدة الثائرة المهرَّبة بالكاسيت أو المستنسخة التي تنتشر بالمدن بسرعة الريح، حتى بقصائده العاطفية الحزن العميق الشفيف لها الدور المؤثر في تهذيب الذائقة الجمالية للمتلقي دون إسفاف وابتذال بل سمفونيات للروح والبهجة والتأمل والحلم فالثراء وعمق المعنى والدلالات التي تنزاح للرفض.. والتمرد.. والعصيان.. والمواجهة.. وعدم الاستكانة بسبب تفريط الحكام بقضايا أمتهم وشعوبهم، لذا الشاعر الناقد الناقم يجلجل صوته بكل المنصات أينما حل بأي بلد ومهرجان، فقد تميز جوهر شعره بالتهكم والسخرية اللاذعة من الضحالة والانحطاط العربي، فالصرخة المدوية بفضح العهر السياسي والخنوع وضياع القدس جعلت منه الشاعر الاستثنائي المبدئي.

يمكنني القول إنه شاعر المعارضة السياسية الوطنية، يلتقط مفردته بعناية فائقة من سعة ثقافته المكتسبة بالمدينة، ثم من الريف العراقي فقد جدد بالقصيدة الشعبية بالتوليف بين الفلكلور والتراث والبيئة حتى بات - النص النوّابي - يردده جميع العشاق بكل جغرافية برع بها وجعل العرب يسمعونها رغم محليتها المفرطة مثل الريل وحمد، البنفسج، وصويحب: 

لا تفرح بدمنه لا يلگطاعي... صويحب من يموت المنجل يداعي
حبّهُ للعراق، للقدس، للعروبة تمثل جذوة الشعر العربي الذي يميل إلى مدح الطغاة والحكام من أجل حفنة دنانير ملوثة بالسحت، حتى عرف الشعراء بأنهم يتكسبون من الطغاة على حساب الجماهير.. لذا سار وحده بطريق يعرف لا يتبعه إلا من الأحرار..

في قصيدته المجلجة عن سيد الشهداء والأحرار يخاطب كل الأحرار بالإنسانية عن تلك التضحية المخضبة بنجيع الدم الزكي، النهضة التي تربك، وتهز عروش جميع الظالمين بكل زمان وحين، هذا الذهول الأسطوري المدوي والصرخة المتجددة ضد الباطل تحملها النوارس، والأرواح الظافرة نحو شمس الحرية، وفي مقارنة لم يأت بها شاعر قبله وبعده عن الرأس الذي حزّ ويطاف به بالبلدان والأمصار كالقدس المستباحة.. تلك هي القصيدة الخالدة:

"في الوقوف بين السماوات ورأس الإمام الحسين"

فضّةٌ من صلاة تعم الدخول

والحمائم أسراب نور تلوذ بريحانة

أترعتها ينابيع مكة أعذب ما تستطيع

ولست أبالغ أنك وحيُ تواصل بعد الرسول

ومن المسك أجنحة وفضاء كأني أعلو،

ويمسكني أن ترابك هيهات يُعلى عليه

وبعض التراب سماء تنير العقول

وليس ذا ذهب ما أقبّلُ

بل حيث قبّل جدك من وجنتيك

وفاض حليب البتول

لم يزل همماً للقتال ترابك

أسمع هول السيوف

ووهج ممات ينير الضريح

ويوشك طفل ضريحك أن يتدلج عنك

أراك بكل المرايا على صهوة من ضياء

وتخرج منها فأذهل أنك أكثر منا حياة

ألست الحسين بن فاطمة وعلي !

لماذا الذهول

تعلمت منك ثباتي

وقوة حزني وحيداً

فكم كنت يوم الطفوف وحيداً

ولم يكُ أشمخ منك وأنت تدوس عليك الخيول

من بعيد رأيت - و رأسك كان يُحزُ - حريق الخيام

على النار أسبلت جفنيك حلماً

بكى الله فيك بصمتْ وتم الكتاب

فدمعك كان ختام النزول

مذ أبيتَ يبايعك الدهر

وارتاب في نفسه الموت مما يراك بكل شهيد

فأين ترى جنة لتوازن هذا مقامك

هل كنت تسعى إليها حفيف الخطى

أم ترى جنة الله كانت تريد إليك الوصول

واقف وشجوني ببابك

ما شاغلي جنة الخلد

أو أستجير من النار

لكنني فاض قلبي بصوتك

تستمطر الله قطرة ماء

تطيل وقوفك ضد يزيد إلى الآن

لله مما بتاريخنا من مغولٍ

ومما به من ذرىً لا تطال و عنها انحدار السيول

إننا في زمانٍ يزيدٍ

كثير الفروع وفي كل فرع لنا كربلاء

وكشف إحدى وعشرون عمرو بن عاصٍ ونصف

نعم ثمة نصفٌ

يفتش روث بني قينقاع

ويرضى فرادى الحلول

إذا كان يرضاه يوماً فراد الحلول

هرم العهر من سوف يطعمه للكلاب

و أحسب أن الكلاب تقئ لفرط نجاسته

لا تخون الكلاب و لا تتباهى بفرط خصاها

لعنت زماناً خصى العقل فيه يقود فحول العقول

إمام الشهادة

عهد على عاشقي كبرياء السماوات في ناظريك

نقاوم

نعرف أن القتال مرير

وأن التوازن صعب

وأن حكوماتنا في ركاب العدو

وأن ضعاف النفوس انتموا للذئاب

وعاث الذئاب من الطائفية تفتك بالناس

ما أنت طائفة

إنما أمة للنهوض

تواجه ما سوف يأتي

إذ الشر يعلن دولته بالطبول

أنا لست ابكي

فإنك تأبى بكاء الرجال

ولكنها ذرفتني أمام الضريح عيوني

يطاف برأسك فوق الرماح

ورأس فلسطين أيضاً يطاف به

في بلاد العروبة

يا للمروءة والعبقرية بالجبن

أما العراق فيُنسى

لأن ضريحك عاصمة الله فيه

وجُودُ بنيهِ أقلُ من الجودِ بالروحِ

جودٌ خجول

وطني رغم كل الرزايا يصل على الموت كل صباح

ويغمد في الحزن كل مساء

وينهض ثانية والصباحات بين يديه بطاقات عرس

و تبقى الثريا معلقة فوقه

أسوة بالثريات فوق ضريحك

يا رب نوّر بتلك الثريات وجهي

وبالطلع

والتي تبين على الدرب عرضاً وطول

أنت لا بد يا رب تغفر للكفر إن كان حراً أبياً

وهيهات تغفر للمؤمنين العبيد

وذلك فهمي

وأنت ضماني على ما أقول

ها أنا عرضة للسهام

التحاقاً بموقفك الفذ

يوم ترجلت بين الرماح

وأنت الذي بيديك عنان خيول الزمان

فما وقفة العز يومٌ

ولكن زمان

وهذا العراق وقد رجلته جيوش الحصار وحيداً يصول

كأن العروبة ليست ترى

كيف يحتز رأس العراق وكيف يقطّع أوصاله

ويطوف يزيد به في البلاد

و واه من الانكسار المرير بعين الرجال

يمدون أيديهم لزمان لكم أكرموه

ولم ألقَ مثل العراق كريماً خجول