العقل البشري والاستثمار العلمي

د. سعد عبد الحسين

العقل هو اهم اعجاز يمثل عظمة الخالق عز وجل في الكون كله فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ان الله تعالى اول ما خلق  من ابن ادم خلق العقل ثم قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا اكملك إلا فيمن أحب أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أثيب وإياك أعاقب.

اذن العقل هو معجزة الخلق الالهي وفعلاً كشف العلم الحديث ان العقل البشري يحتوي على 150 مليار خلية حسية. ولو جلسنا لعد هذه الخلايا  واحد...اثنان... ثلاثة... لاستغرقت عملية العد هذه خمسة الاف سنة.

كل خلية حسية من خلايا العقل لها مليون وصلة حسية للذاكرة تدعى (synapsis)  لتحزين المعلومات. مجموعة خلايا العقل البشري  لها قدرة خزنية للمعلومات تقدر بأكثر من مليون كيكا بايت   وهذه القدرة الخزنية قادرة على خزن فلم فيديو  يشتغل لمدة 300 مليون ساعة ويستمر عرضه بصورة مستمرة فترة زمنية تقدر بثلاثة الاف سنة.

الانسان المعاصر لم يستخدم ولم يستغل اكثر من 1% من القدرات  العقلية الكاملة وبهذه النسبة المتواضعة استطاع العلماء الوصول للقمر واحدثوا هذه الاكتشافات والاختراعات التكنولوجيا الهائلة. وجعلوا البشر قادرين على الاتصال بالموبايل من شرق الارض الى غربها  ومن اعلى الارض الى اسفلها يستطيع الانسان ان يتصل بصديقه فيسمع صوته ويرى صورته. هذه الثورة التكنولوجية والعلمية الحديثة والانسان لحد الان لم يستغل اكثر من 1% من قدراته العقلية.

أذن كيف لو استغل الانسان كل قدراته العقلية؟

بآخر الزمان كما في بعض الروايات يضع الامام الحجة ابن الحسن (عج) يده على رأس الانسان فيكتمل عقله. العقل البشري يكتمل واذا اكتمل فماذا يمكن ان يبتكر ويبدع. قد نستطيع ان نتكلم مع ارواح موتانا الماضين وهم في عالم الاخرة. وقد يصبح الاتصال والانتقال بين العوالم ممكناً وهذا ما قد يفسر بعض الاحاديث لرسول الله (صلى الله عليه واله) والائمة الاطهار عليهم السلام التي تتحدث عن الرجعة، حيث يوجد بعض الناس الذين محضوا الايمان ان يرجعون للحياة الدنيا مرة اخرى ليؤدوا دوراً اخر في بناء دولة العدل الالهي التي وعد الله تعالى بها في اخر الزمان.

العلم هو نتاج العقل والاسلام هو دين العلم فأول كلمات قرآنية نزلت على صدر رسولنا الكريم (صلى الله عليه واله) هي:

 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ  (5) ) [ العلق: 1_5]

ان شمس الحضارة تشرق بجانب وتغرب من جانب، ووضع رب العزة لذلك اسباب ومسببات.

الاسلام اكثر دين حث على العلم فقد وردت كلمة العلم بالقران الكريم 779 مرة وكانت الآيات القرآنية التي ورد بها كلمة العلم اكثر من الآيات القرآنية التي تتحدث عن العبادات والتي بلغت 111 آية قرآنية. القرآن الكريم يحتوي على 6236 آية قرآنية موزعة على 114 سورة قرآنية موزعة على ثلاثين جزء للقرآن الكريم. هذه الآيات القرآنية تصنف ثلاثة اصناف وهي:

  1. آيات تتحدث عن العبادات كالصوم والصلاة الخمسة والزكاة والحج وعددها يبلغ 111 اية قرآنية. اي ان كل اية قرآنية عن العبادة تقابلها 62 اية قرآنية تتكلم عن امور غير عبادية  اي الامور الحياتية الاخرى. اذن الصنف الاول من الآيات هو صنف ينظم العلاقة بين الانسان وربه وهي الآيات العبادية.
  2. الصنف الثاني من الآيات القرآنية تنظم العلاقة بين البشر والشعوب وهذه الآيات الاخلاقية.
  3. الصنف الثالث من الآيات هي التي تتكلم عن بناء الارض وانشاء الحضارة الانسانية وهذه تحتاج الى العلم وكان عددها 779 آية.

من هذا يتضح ان القران الكريم ليس كتاباً عبادياً فقط. فخذ من القران ما شئت لما شئت كما قال السلف الصالح. القرآن الكريم كتاب دين ودنيا... وفعلاً لاحظ العلماء ان كلمة الدنيا وردت في القرآن الكريم 115 مرة، وان كلمة الاخرة وردت 115 مرة أيضا . من هذا يتضح ان القرآن  الكريم ركز على العلم اكثر من تركيزه على العبادات، ورسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم) قال:

 من اراد الدنيا فعليه بالعلم ومن اراد الآخرة فعليه بالعلم ومن ارادهما معاً فعليه بالعلم.

وقال (صلى الله عليه واله وسلم) من سلك طريقاً يبتغي به علماً سهل الله له طريقاً الى الجنة. 

وقال امير المؤمنين علي ( عليه السلام): العلم سلطان مَن ملكهُ صال به ومن فقده صيل عليه.

العلم هو الذي يبني الحضارة البشرية. لذلك قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)  عندما دخل الى المسجد ورأى حلقتين من الرجال الاولى تناقش بأمور الدين والعبادات والاخرى تتناقش  بأمور علمية اشار الى الحلقة الاولى وقال (صلى الله عليه واله وسلم) هؤلاء على خير  ولكنه جلس مع الحلقة الثانية ليشير للعالم  ان العبادات غير قادرة على بناء الحضارة الانسانية بل العلم هو الذي يبني.

نعم العبادات تبني الانسان المؤمن العقائدي ولكن هذا الانسان بدون علم سيضل متخلفاً ولكنه بالعلم سوف تنفتح افاقه وتزداد ابداعاته وسينير  ما حوله  وصدق من قال:

العلم يبني بيوتا لا عماد لهـــــــــــــــا ***** والجهل يهدم بيوت العز والكـــــــــرم

امريكا قبل 200 سنة كانت مستعمرة بريطانية. ودخلت بحروب بين شعبها... بين الانكليز والفرنسين... بين الغربيون والشرقيون... بين السود والبيض... وبين سكانها الاصليين الهنود الحمر وبين الوافدين الجدد.  طالت الحروب اكثر من خمسون عاماً  ولكن الرئيس الامريكي أبراهام لينكولن وهو اول رئيس للولايات المتحدة  الامريكية استطاع انهاء هذه الحروب والبدء ببناء الدولة الامريكية. الرؤساء الامريكان ادركوا ان من يمتلك ناصية

العلم سوف يسود العالم ولذلك خصصوا للبحث العلمي اعلى التخصيصات واغدقوا العلم والعلماء. وكما قال الامام علي (عليه السلام): اكرموا العلم بإكرامكم للعلماء  والعلم سلطان من وجد صال به ومن فقده صيل عليه.

الرئيس الامريكي رقم 41  خصص عام 2011 ميزانية للبحث العلمي فقط مقدارها 550 مليار دولار امريكي. هذه الميزانية الضخمة قد تعادل ميزانية عشر دول مجتمعة. ووزارة الصحة والتعليم العالي الامريكي خصصت 180 مليار لتطوير عقار  علاجي لمرض ( Diabetes) السكري لان الاحصائيات الصحية تقول ان 20% من سكان العالم سيصاب بداء السكري وهذا معناه أيضا ان ما يقرب من 2 مليار انسان مريض بالسكري بالمستقبل. لو تم كشف دواء ضد السكري يتطلب من كل انسان مصاب علاج سنوي مقداره الف دولار امريكي مثلاً فهذا يعني ان موارد الخزينة الامريكية ستبلغ 1000* 2000000000 اي ما يقارب من 2000 مليار دولار امريكي من بيع دواء ضد السكري فقط.  وهذا هو الاستثمار العلمي.

احد علماء اليابان يقول: ان شعوب العالم تستثمر مواردها الموجودة تحت اقدامها اي تحت الارض ونحن نستثمر مواردنا  الموجودة فوق اقدامنا. نستثمر عقولنا وعلمنا. مواردهم ستنضب ومواردنا تزداد كل عام لان العلم يزداد مع الزمن، وكما قال الامام علي (عليه السلام) كل شيء ينقص بالإنفاق الا العلم فأنه يتسع.

الاسلام ادرك منذ اكثر من الف عام اهمية العلم وسادت الدولة الاسلامية عندما صرفت على العلم والعلماء. ويحكي التاريخ ان الحاكم العباسي الذي اسس دار الحكمة للكتب اعطى جائزة لمن يترجم اي كتاب اجنبي مقدارها وزن الكتاب ذهباً. هذا الاهتمام بالعلم في العراق عاصمة الدولة العباسية آنذاك جعل البعثات العلمية الاوربية تتجه صوب بغداد لتنهل من منهل العلوم.  وهناك رسالة تاريخية لملك انكلترا يوصي به الملك العباسي ان يراعي ولده الذي بعث ببعثة علمية الى بغداد  لإنهاء دراسته العليا.

اللغة العربية لم تمت مع الزمن ولكن العرب شعوباً وحكومات ماتوا عندما تركوا العلم واستهزئوا بالعلماء حتى صار راتب المعلم والاستاذ الجامعي بالعراق بنهاية التسعينيات لا يتعدى 5 دولار شهرياً!! وصدق أحمد شوقي عندما قال:

بالعلم والمال يبني الناس ملكهم ..
لم يبن ملك على جهل وإقلال ...
كفاني ثراء أنني غير جاهل ..
وأكثر أرباب الغنى اليوم جهال...

العلم والبحث العلمي يحتاج الى تخصيصات مالية ضخمة ولكنها سوف تنتج ابداعات علمية تعطي اضعاف ما صرف عليها.

 شركة ( Biotech) انتجت خط علمي جديد بإنتاج الاجسام المضادة وحيدة النسيلة ( Monoclonal anti body)  تستخدم في كل الفحوصات والكشوفات الطبية وتستخدم أيضا بالعلاجات حتى اصبحت واحدة من اهم الكشوفات المستخدمة في التصنيفات  الفايروسية والبروتينية. هذا الحقل العلمي الجديد جعل الشركة تربح سنوياً 38 مليار دولار امريكي سنوياً.

شركة نوكيا للموبايلات انتجت الهاتف النقال Nokia  تدر على الخزينة الفنلندية 39 مليار دولار من بيع الهواتف فقط.  وهذه تعادل ميزانيات دول في العالم الثالث. بن كيتس اغنى رجل في العالم تقدر ثروته  180 مليار دولار تبرع بـ 20 مليار للأمم المتحدة  لتغطية نفقات جمعية الاغاثة الدولية. هذا الرجل هو صاحب شركة مايكروسوفت للبرمجيات الحاسوبية.

 العلم يبني حضارة واقتصاد وقوة وعزة للإنسان على مستوى فرد وللشعوب التي تعطي للعلم والعلماء قيمتهم ومكانتهم, علماء التنمية البشرية اليوم يقولون ان 2% من المجتمع هم الذين يبنون الحضارة الانسانية. والمقصود هُم العلماء والاكاديميون والباحثون فهم النخبة التي تصنع الحضارة وتجعل الشعوب تتقدم.

لقد آن الاوان اليوم ان نعرف قيمة العلم وقيمة الاستثمار العلمي ونحن امة العلم وامة اقرأ.