نهج الدعاة في تقديم الإمامة

 

الشيخ ضياء الدين زين الدين

 

وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ . البقرة (124)

إن الحجة الإسلامية بقاعدة الممازجة بين النص والإعجاز في موقع الإمامة وأصفيائها المنتجبين (عليهم السلام) هو النهج الذي سارت عليه الحجة الإلهية في تقديم الحقائق الإسلامية وأصفيائها إلى العقول، وفي تنبيهها على الغايات الإسلامية الكبرى، وبيانها لموقع الإمامة والأئمة لا يخرج عن هذه القاعدة العامة، وكان يفترض بدعاة الإمامة أن يمضوا في دعوتهم وتبليغهم على هذا النهج، ليكونوا أقرب إلى تحقيق الغايات التي يطمحون إليها.

إلا أن توجهات البحوث في هذه المواضيع اتخذت مناحي أخرى –مع الأسف-، لأسباب شائكة لا يعنينا الدخول فيها الآن، فطبيعي أن يكون هذا الارتباك المشهود في الساحة الإسلامية، لا في بناء العقيدة بالإمامة ومعرفة الأئمة فحسب، وإنما في التعرف على جميع الحقائق الإسلامية أيضاً –وكما بينا في الفقرة الرابعة السابقة-، ولو أن مخلصي الدعاة وحاملي راية الإمامة نهجوا نهج الدلائل الإسلامية في البيان لضمنوا لأنفسهم الوصول إلى الغاية بأيسر سبيل وأقصره .

ومع هذا فلا يزال الطريق مفتوحاً، ولا تزال لحجة الله (تعالى) إشراقتها الوضاءة، في البيان وفي الدلالة وفي المدد المسند لكلمة الهدى، و-قبل كل ذلك- من الله الحول والقوة والتوفيق : *وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" .

ولكن لا بد من الالتفات إلى أن العودة إلى هذا النهج في تقديم الإمامة، وشخصيات أصفيائها إلى العقول، ليست بتلك السهولة التي تهيئ للمبلغ أو الداعية الوصول إلى غايته دون إرباك أو غموض، لأسباب عديدة، منها :

1 -: سعة الجوانب التي يحيط بها موقع الإمامة في الإسلام، وكثرة التراث الذي خلفه نجباؤه في التأريخ، وتفاوت المستويات التي صيغت بها المواقف والرؤى والكلمات التي استوعبها ذلك التراث، مما يجعل الوصول إلى المنابع المباشرة للإعجاز أمراً صعباً، قد يكون بعيد المنال على معظم طالبي الحقيقة .

2 -: تدخل الرواة في نقل ذلك التراث حتى في الصحيح الثابت منه، فالراوي في المواقف عادة يركز على مشاهد معينة يراها جديرة بالالتفات، كما أنه يروي منها ما تقتضيه مناسبات الرواية، وهكذا، ومن جهة ثانية فإن العصمة –ولأسباب معينة- سمحت بنقل الرواية بالمعنى، إذا تحفظ الراوي على المعنى المقصود، وهذه الأمور وأشباهها أخفت معالم الإعجاز في الكثير من تراث أهل البيت(عليهم السلام) ضمن أطر تحتاج بلورتها إلى جهود متكاملة لا تتأتى من خلال العمل الفردي .

3 -: ابتعاد البحوث الواردة في الإمامة وشؤونها عن هذه التوجهات خلال جميع الحقب الماضية، بما لها من منهجة وصياغات ألِفَتها الأذهان، مما جعل العودة إلى النهج الذي قدمناه لا تعدو المواقف الفردية غير المتكاملة، لا في أسسها وموازينها، ولا في النتائج المتوخاة منها .

ولكن من الضروري أن لا يغيب عن بالنا : أن صعوبة العودة إلى هذا النهج –ككل- لا تستلزم صعوبة إجرائه في مفردات المواقف، ولا في اتخاذ هذه المفردات سبيلاً لتحقيق الغاية المطلوبة في ذلك الكل، وهذا بعض ما يتميز به هذا النهج القرآني عما سواه من المناهج .

ويكفينا شاهداً على هذا نفس طرائق القرآن في تنبيه البصائر إلى إعجاز ذاته، وإلى إعجاز جميع الحقائق التي التزمها، كالرسالة والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وغيرهما، وتحديه بهذا الإعجاز .

فالقرآن كما تحدى العقول بما في ذاته –ككل-، وبما يحويه من حقائق وآفاق من منابع الإعجاز الأبدي، ليفرض حقيقته الكبرى على العقول، بكل ما فيها من عظمة وشمول، وبكل ما تستوعبه من أبعاد وجوانب لا غنى للبشرية بدونها، وبجميع ما يستهدفه من غايات، لا سعادة للإنسان، ولا كمال دون الوصول إليها، تحدى كذلك بعشر من سوره أيضاً، ليؤكد أن إعجازه في هذا المقدار من أجزائه، لا يختلف عما هو موجود منه في كيانه الكلي، وليثبت للبصائر أن عدم القدرة لدى بعض الناس على استيعاب إعجازه ككل، لا يعيقهم عن إدراك ما هو موجود في الأجزاء منه، لأنه خاصة عامة في كل ركن من أركانه , وكل أفق من آفاقه، وهو بادي النور، قائم الحجة في أجزائه، كما هو الشأن في هيكله الكلي العام .

وأخيراً تنزل القرآن إلى التحدي بسورة واحدة منه، ليؤكد عجز الإنسان في مجاراته حتى في هذا المقدار الجزئي الصغير، وبنفس المستوى كذلك، بل وهو يحسم الموقف مع الإنسان بأن يطلب منه الاستعانة بكل من يمكنه أن يستعين به من غير الله (تعالى)، لتكون النتيجة واحدة في الجميع، وتكون الحجة عليه أبلغ :

*وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ" .

نعم ؛ ((وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ)) , ولكن ماذاكانت النتيجة ؟ .

إن النتيجة هي ((لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ))، وإلى الأبد، ويكفينا أننا في القرن الخامس عشر الهجري، وفي المستوى العلمي والثقافي الذي وصلته البشرية في هذه الحضارة ذات الموقف المعروف من الدين –بشكل عام-، ومن الإسلام -بشكل خاص- ونرى أن الإعجاز في هذا النفي التأبيدي لا يزال قائماً كأي حقيقة قرآنية أخرى ..

وبهذه التجزئة في التحدي القرآني يضع القرآن إعجازه في موضعه الخاص الكفيل بإغناء الإنسان في إيمانه العام بحدوده وحقائقه كافة، وفي تربيته لذاته في سلم كماله المنشود وفق الأسس والضوابط القرآنية، كما يفسح له المجال في إغناء خبرته العلمية والثقافية من خلال التطبيق الأمثل لاختصاصاته وطاقاته التي يملكها في أي أفق من آفاق المعرفة الإنسانية، وعلى أي مستوى، دون أن يعيقه عجزه في مجالات قرآنية أخرى عن الوصول إلى الغاية من خلال ما يملك .

كما يفتح في الوقت نفسه من أعماق الإعجاز القرآني ما يواكب كل تقدم تناله البشرية وحتى الأبد، لتصبح كل درجة من العلم والخبرة يبلغها الإنسان بعض شواهد هذا الإعجاز كذلك كما قال تعالى: *سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" .