الإعلام الغربي والكيل بمكيالين

البروفيسور علي عبد فتوني/ لبنان

يرفع الإعلام الغربي شعارات ومبادئ إنسانية أبرزها حقوق الإنسان، والديمقراطية، وضرورة إحترام الشرعية الدولية، وقوانين الأمم المتحدة، ومحاربة التمييز العنصري، ولكنها اعتمدت الانتقائية المكشوفة عند تطبيقها، وضربت بكل تلك الشعارات والقوانين والقواعد التي حاولت فرضها على دول العالم، وأثبتت بأنها تتعامل بسياسة الكيل بمكيالين، حيث تطلق كلاما" تفوح منه رائحة العنصرية على حساب الشعارات المنادية بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وحق الوصول الى المعلومات، وحرية البث الإعلامي، ويستخدم الإعلاميون في وسائل إعلامهم الغربية كلمات تخرج في سياقها عن المواثيق الأخلاقية الضابطة للعمل الصحفي والإعلامي حول العالم عندما يتعلق الأمر بالدول العربية، ويبرز بشكل غير مسبوق الانحياز الأعمى لشعوب ضد شعوب، وقلب المعايير والمفاهيم الإنسانية، والتفريق بين لاجئ أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية (اللاتينية)، ولاجئ الدول الغربية، مما يثير الشكوك في جدية مجمل الشعارات التي يرفعها الغرب من موقع إمساكه بدفة الحضارة الإنسانية في هذه الحقبة التاريخية .

رغم ذلك تزعم الدول الغربية تبنيها للكثير من المفاهيم وكيف أنها أصبحت قواعد يعتمدونها في تفكيرهم وسلوكهم وتقييمهم للآخر، خاصة في الحالات المتعلقة بحماية حقوق الإنسان والانتصار للمظلومية، إلا أن الواقع أثبت أن خضوع دول الغرب لهذه المبادئ يحكمها ضابط رئيسي واحد يتعلق بمصلحتهم الخاصة فقط.

لقد جعل الإعلام الغربي من تعدد الأعراق والطوائف والأديان في دول العالم الثالث مشروع أزمات مستقبلية يمكنه إثارتها وتحريكها وتضخيمها خدمة لأجندته، وينحاز هذا الإعلام الى ما يسميه "حرية الرأي" عندما يتعلق الأمر بهجوم أو شتيمة ترسل ضد شعوب العالم الثالث، ولا ينحازون الى حرية الرأي حينما يكون الهجوم عليهم وعلى سياستهم بل يصبح مساسا" للمحرمات.

وكلنا يعلم كيف نجحت وسائل الإعلام الغربية في تكريس ظاهرة المقاومة الشعبية حتى على مستوى المفاهيم باعتبارها إرهابا" متعطشا" للدماء لا يخضع للأعراف والقوانين أو حتى للمواثيق الدولية.

وربما نستطيع أن نذكر عشرات الأمثلة التي استخدمت فيها وسائل الإعلام في معظم الدول الغربية قدراتها وسحرها للتركيز على هذا الجانب أو ذاك مما تريد الإشادة به عند بعض الدول والأفراد أو إهمال وتغييب ما لا يتفق مع سياستها، كالتعتيم على ظاهرة الإرهاب عندما يكون منسجما" مع مشاريعهم تطلعاتهم، والتشديد على الوحشية وربطها بدول العالم الثالث عندما يكون المتهم من هذه الدول.

وخلال غزو بعض الدول بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي، إحتكرت وسائل إعلام غربية تحت الرقابة العسكرية الميدانية نقل وقائع الحرب، وقدمت صورة نظيفة لها، فلم نشاهد على شاشات التلفزة أي نقطة دم على الرغم من مئات آلاف القذائف التي إنهمرت على رؤوس شعوب هذه الدول وعلى المنشآت فيها. كما نقلت هذه الوسائل الإعلامية، مستويات التقنية العالية التي يملكها جيشهم والتي توحي لمن يشك في ذلك، بمهارات عالية يستحيل معها إرتكاب الأخطاء أثناء عمليات القصف أو التدمير ما ينزع عن الطرف المقابل حجته في إدعاء حصول مجازر أو إصابة للمدنيين أثناء العمليات العسكرية، ولا نفاجأ بهذا الإنحياز الإعلامي على مستوى السياسة والمفاهيم إذا علمنا بأن أكثر من ٧٥ بالمئة من مجوع شبكات الإتصال العالمية في يد الدول الغربية.

نقول إن عالم اليوم أشبه بفضاء مفتوح على إحتمالات قاسية ومثيرة للهلع، وكذلك بما ترنو اليه قوى المصالح الكبرى من قيم المستقبل. وضمن هذا الفضاء بالذات يمثل الإعلام المادة الأولى والرئيسة في التعبير عن كل ما يتعلق بالعالم، وهنا مكمن القيم المأزومة والعلامة التي تشير الى إهتزاز  البناء الأخلاقي العالمي وبؤسه .

بعد كل ماتقدم، يقال إن هدف الدول الكبرى هو تكوين  الإنسان الجديد، هذا الإنسان الجديد كما نراه هو الإنسان المملوك والمصادر إعلاميا" الغارق في الشكلية ، الخالي من أي مضمون خاص، بل إن الشكل أصبح هو المضمون، إنه الإنسان الذي تقوم حياته على الإستهلاك المحض، من دون أن يكون هناك أي مضمون آخر يغذي الحضارة والقيم، ومن جهة أخرى فإن هذا الإعلام يؤدي الى تشجيع عوامل التفتت والإنقسام داخل المجتمعات، والى إثارة التناقضات العرقية والطائفية والمذهبية بين الأقوام داخل المجتمعات ، ويؤدي بهذه المجتمعات الى حروب وتوترات داخلية تتيح للدول الكبرى السيطرة والهيمنة، وتتيح البنى الثقافية والأخلاقية وأنظمة القيم داخل كل مجتمع وداخل كل حضارة لمصلحة تيارهم تحت عنوان  الحداثة "، كما يتجلى فيما يسمى الحضارة الثقافية الغربية.

لقد لاحظنا أن محاولات ما يسمى التحديث الحضاري الذي يمارسه الإعلام حيال الآخر، والآن تمارسه الدول الغربية حيال العالم، هو بهدف القضاء على مقومات المناعة والصمود والدور في شعب من الشعوب، وإلغاء منافس محتمل أو فعلي، إذا لم يكن كذلك، فهو تدمير القوى التي تحول دون جعل هذا الشعب سوقا" للمنتجات التي تصدرها القوى الغربية.

لذلك نقول إن الإعلام الغربي يعمل على تدمير قوى المناعة التي تجعل من شعوب دول العالم الثالث قوة لمقاومة مشاريعهم، بكل ما يعنيه ذلك، والعمل لإخضاع هذه الشعوب والدول لأجل أن تكون سوقا" لإستهلاك المواد المصنعة، ومصدرا" للأيدي العاملة الرخيصة، والقضاء في سبيل هذا الهدف على قوى الممانعة في هذه الشعوب، وهذا ما نلاحظه بوضوح من خلال السياسة والممارسات المعتمدة على أرض الواقع. وعلى هذا الأساس يحاول الإعلام الغربي خلق المزيد من المشاكل والصعوبات التي تعترض قيام وحدة الشعوب، وتخلق موجة ثقافية لإفساد المجتمعات وتشويه حضارتها.

والجدير ذكره، أن دول العالم الثالث بدلا" من إندفاعها نحو المستقبل، تحمل في جوفها ماضيها، وتتقهقر الى هذا الماضي لتطابق حاضرها عليه بحثا" عن مهرب أو ذريعة إزاء ما ينطوي عليه هذا الحاضر من تحديات وتهديدات الإعلام.

وفي خضم مشاكل دول العالم الثالث، فإنها بأمس الحاجة للإهتمام بإعلامها، علما" أنها لا تتورع عن وضع الإعلام في ذيل قائمة أولوياتها باعتباره أقل أهمية من العوامل السياسية والأمنية، وطغيان السياسة على مساحة الإعلام.

إنطلاقا" من ذلك نقول، إن واقع دول العالم الثالث الراهن يواجه غيابا" ظاهرا" لأشكال الحرية الفردية المرتبطة بالإعلام، فالإعلام أشكال وقيم لا يمكن إلغاؤها من حياة الشعب، أو إنكارها عليه باعتبارها حقا" من حقوقه الفردية، إنها على هذا الأساس لصيقة بشرط حرية الشعب في أن يفكر، ويتفاعل مع التطورات والقيم والمعايير السائدة.

على دول العالم الثالث أن تعمل على تأسيس قطاع إعلامي، يقوم بنشاط إعلامي وثقافي وطني التوجه، ويؤمّن هذا القطاع الفرصة للتفاعل بين القطاعات الوطنية المختلفة على مساحة قطرية في المجال الفكري والإعلامي والثقافي والاجتماعي.