حُسنُ الانتظار

بقلم: رجاء محمد بيطار/ لبنان

بين السماء والأرض عهدٌ وميزان، ,نورٌ وبرهان...

بين السماء والأرض رَوحٌ وريحانٌ وجنةٌ ورضوان، أو جحيمٌ مقيمٌ تتقلّب فيه القلوب والأبدان... والفاروق بين الحقّ والباطل هو الإمام.

بين أن تكون مؤمنًا أو منافقا، وبين أن تمضي في الحياة كاذبًا أو صادقا، وبين أن ترفع لواء المحبة في الله فتسعد، أو تهبط إلى درك الحقد فتشقى... هو الإمام، من يأخذ بيدك في متاهات المكان والزمان، ليصل بك إلى برّ الأمان.

وقد جاء عن أئمة الهدى عليهم السلام: "لو خلت الأرض طرفة عينٍ من حجةٍ لساخت بأهلها"[1]...

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تخلو الأرض من قائمٍ لله بحججه، إما ظاهرًا مشهورا، أو خائفًا مغمورا، لئلا تبطل حجج الله وبيّناته"[2].

إذًا، هو الإمام الذي يعود إليه البشر في بيان الحقّ والباطل، ويهتدون بنوره ويرتوون من نميره، فلا يضلّون ولا يظمأون... ولا تسيخ بهم الأرض من حيث لا يشعرون.

وقد قضى الله أن يكون أهل هذا الزمان ممن يقطفون ثمار اثني عشر إمامًا في سلةٍ واحدة، هي القلب السليم...

بلى، وتلك ضريبة الإيمان، أن يكون لديك هذا الكمّ العظيم من الحكمة المتمثّلة بأولئك المصطفَين الأبرار، وسيرهم وأخبارهم، وقصصهم وآثارهم، وأن يَحْبُوَك الله بنعمة الهداية لولايتهم الحقّة، فلن يضيرك ساعتئذٍ أن ترى إمام زمانك بقلبك ولا تراه بعينك!

لقد عاش في زمن الأئمة الطاهرين الميامين بشرٌ كثر، رأوا الإمام المعصوم وعايشوه، وعلموا أن الحقّ معه ولكنّهم أنكروه، فما أغنت عنهم رؤيتهم له شيئا، {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}[3]

إذًا، فليست القضية قضية رؤيةٍ وحضورٍ ماديٍّ نستشعره بحواسنا، فإن لنا في بصائرنا كفاية، لو كانت أنفسنا صافيةً من الأكدار، وقلوبنا مطهّرةً من الأدران والأقذار، وحواسّنا مزكّاةً بطاعة الواحد القهّار... وإن لنا في وصايا أئمة الحقّ خير نبراسٍ وغاية، لو أدرك الإنسان فيما أدرك، حقَّ جوارحه عليه، بصرًا وسمعًا ولسانا...، وجعل رسالة الحقوق لسيد الساجدين منشورةً بين فؤاده ويديه، لعرف كيف يجد السبيل ويهتدي إليه، ولما ضلّ ضلالًا بعيدا...

إن لنا أن نتأمّل في حديث النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلّم إذ قال: ["أللهم لقني إخواني، أللهم لقني إخواني"، فقال من حوله من أصحابه: "أما نحن إخوانك يا رسول الله؟"، فقال: "لا، إنكم أصحابي، وإخواني قومٌ في آخر الزمان آمنوا ولم يروني، لقد عرّفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم، من قبل أن يخرجهم من أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، لأحدهم أشدّ بقيّة على دينه من خرط القتاد في الليلة الظلماء، أو كالقابض على جمر الغضا، أولئك مصابيح الدجى، ينجيهم الله من كلّ فتنةٍ غبراء مظلمة".][4]

أولا نرى أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعني بآخر الزمان تلك الفترة الزمنية التي يكون الإمام الحجة (عج) غائبًا مستورا؟

فمؤمنو زمانه هم أولئك الذين دعاهم النبيّ بإخوانه، وهم الذين يُبتلَون بغيبةٍ كبرى لإمامهم، يراهم فيها من حيث لا يرونه إلا بقلوبهم، فإذا زكّوا أنفسهم كان لهم قلوب يعقلون بها وبصائر يدركون بها ما خفي عن أبصارهم، فعرفوا الحقّ فاتبعوه، وميّزوا الباطل فاجتنبوه، أما إذا ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون من معاصٍ وذنوب، فهم سيضلّون بلا ريبٍ ولن يكون بإمكانهم أن يروا الحق، ولا أن يجدوا درب الخلاص في خضم الأوهام والعثرات، حينما تصدمهم الشبهات وتصفعهم الفتن وتخيّم عليهم الظلمات...

وهنا، يأتي دور الانتظار...

إن ما يميز مؤمني هذا الزمان عن سواهم، وما يجعلهم جديرين بأن يكونوا فيمن قصدهم النبي وأراد لقاءهم، هو حُسْنُ الانتظار...

والانتظار حالةٌ شعوريةٌ يعيشها المرء حينما يأخذ أهبته لحدثٍ ما، أو يتهيّأ للقاء شخصٍ ما، أو يستعدّ لرؤيته، فضلًا عن نصرته... وعلى قدر الحدث المنتظَر، أو الشخص المنتظر، يكون الاستعداد والتهيّؤ... ولنا الآن أن ننظر في أعماق الماضي نزولًا، وإلى آفاق المستقبل صعودًا، لنرى أيَّ المنتظرين لإمام زماننا نحن؟!

لقد قال الشاعر قديمًا:

على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ

وتأتي على قدر الكرام المكارمُ

وإن لنا إمامًا معصومًا لا يكتمل وجودنا إلا بوجوده، وهو منتهى العزم وخلاصة المكارم، وقد غيّبته عنّا إرادة الباري جلّ وعلا لقلة الناصر والعدد، وإنه قد واكب الزمان وغدا صاحبًا له، على أن يأتيه بأنصاره، وأن يقوم بالحقّ حالما تكتمل العدّة، وهل العدّة إلا نحن، إن صلح حالنا وعرفنا حقّه علينا، فعزمنا على نصرته قولًا وعملا، وأكرمنا أنفسنا بمعرفته ووُفّقنا لطاعته بمعرفة الله جلّ وعلا؟!...

إن انتظارنا له ليس كلمةً فحسب، بل هي مسؤوليةٌ عظمى، وإننا إذ نعاهد حسيننا في زيارة عاشوراء مناجين ربّنا قائلين: "أللهم أحيني محيا محمدٍ وآل محمد، وأمتني ممات محمدٍ وآل محمد"، فلسنا نريد سوى أن نستلهم من حياة آل محمدٍ ومماتهم، وقد قضوا جميعًا شهداء، ما ينير دربنا في هذه الحياة الدنيا ويرفع قدرنا ويجعلنا بحقٍّ أنصارًا لخاتم الأوصياء.

لقد قال الله عزّ من قائل: {وانتظروا إنا منتظرون}[5]...

فلئن انتظر أهل الباطل باطلهم وسعوا إليه سعيهم، فإنا ننتظر حقّنا وصاحبه ونسعى إليه سعينا، ولنا في نبينا وآله أسوةٌ حسنة، وبشّر الصابرين، {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون}[6]... وليست جنّتنا إلا نظرة الرضا من إمام زماننا، فهي تقودنا إليه وتقوده إلينا، فنرى الطلعة الرشيدة والغرة الحميدة، بالقلب قبل العين، وعندئذٍ يُفرّج عن المؤمنين.

 


[1]  معجم أحاديث الإمام المهدي عليه السلام، الشيخ علي الكوراني العاملي، ج4، ص172

[2]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، 23/ 46/ 91

[3]  سورة الحج، الآية 46

[4]  بحار الأنوار، الجزء 52، ص 124

[5]  سورة هود، الآية 122

[6]  سورة فُصّلت، الآية 30