راهب بني هاشم شهيد السجن

الباحث: صباح محسن كاظم 

الصورة: محمد الخفاجي               

الزاهد - العابد - التقي - النقي - الطاهر حفيد المصطفى والمرتضى، عاش حياته بين سجن البصرة وبغداد، الحياة المغمسة والمنقعة بالألم والأسى والسجن والمحن والخطوب لم تثنِ الإمام السجين عن الشكر لله والعرفان لآلائه ولإحسانه؛ ولم تجده يذعن للشكوى والتذمر والجزع ووحشة السجن، بل تحكّم بالصبر على مشقّة تلك  الوحشة من خلال إرادته في الهيمنة على كبح جماح النفس بالتقوى والإيمان والتفرغ للعبادة والدعاء والذوبان الإلهي المحض في شكر الخالق وهو بأقسى المحن.. محنة الغرف المظلمة، وغلظة القلوب القاسية، والانقطاع القسري عن الأمة، ففي الجسد - بالسجن - لم يبعده عن الدعاء للأمة بالخلاص من بطش الطغاة العباسيين الذين أجرموا بحقه، بعزله عن القواعد الشعبية.. والجماهير.. وهذا ديدن الطغاة بكل عصر ومصر في مقاومتهم  لدعوات الحق من قبل الأنبياء والصالحين فهم يلقون بهم في ظلمة وقعر السجون، أو يعاملونهم بالنفي والمطاردة، والمحاصرة، لكن إرادة الحق للمعصوم تنتصر وإن غُيب أو سُجن أو أُستشهد فالتاريخ يدوّن فضائله ومناقبه وسيرته ويُدرس بكل عصر وزمان كمثال يحتذى به للوقوف بوجه الباطل ونصرة الحق والانتصار للحقيقة بالصمود بوجه الرذيلة،  ولدحض  شعارات  وأساليب البغاة، شتّان بين الصلاح والخراب، وشتّان بين الجلاد المجرم والضحية البريئة... فمسعى الطغيان موئله الزوال فيما منار الإصلاح  في السيرة العطرة لأئمة الهدى والتقى والورع  هي معرفة تعد إشعاعاً من نور الهداية ونور التكامل ليستقي من مسيرتها العبر للشعوب ولجميع المؤمنين الذين يواجهون قسوة الطغاة الذين يتناسلون في الأرض كالأرانب، فيما الطغاة لعنة في أحشاء التأريخ. وقُبح يمتلئ بالقيح والنفايات ومآلهم إلى السقوط الدراماتيكي، ففي حياة الشعوب دروس من الأكاسرة والقياصرة والمستبدين، الذين يشيدون قلاعهم وقصورهم وحصونهم من جماجم الضحايا وعلى ضلوع الفقراء؛ فيما دعوة الإصلاح والإيمان والخير من الأنبياء والمعصومين تتلألأ كالنجوم الزاهرة في الوجود يهتدى بهم من الجميع..

إمامنا السجين - كاظم الغيظ - تغلب بإرادته وعصمته وملكته وكمالاته الأخلاقية والروحية على محنة السجن، وظلمة القبو، ووحشة المعاملة، وتصدع وتهشم وذيلية أخلاق السجان الغليظة ،بحكمته وبصبره وتفرغه للعبادة، ليعلمنا مواجهة قسوة ووحشية القتلة المرعوبين من النُساك والعُباد والزُهاد الذين لا يحملون سلاح المواجهة لكن قلوبهم تحمل مقاومة الأشرار، وسلاح الإيمان أمضى وأقوى، فصيام إمامنا الكاظم -عليه السلام- في نهاره وقيامه بليله، تخلص من الرزء الذي وضعه فيه اللارشيد؛ وقد بهر -هارون- بما رآه من تقوى الإمام وعبادته فقال بحقه: (إنه من رهبان بني هاشم).

وحتى عندما سُجن إمامنا التقيّ في بيت السندي بن شاهك أقبل على عبادة الله فكان  منشغلاً ومتأملاً وذائباً بذكر الله، يذكر الباحث الكبير باقر شريف القرشي من دراسته عن حياة الإمام ص8 ((كانت عائلة السندي تطل عليه فترى هذه السيرة التي تحاكي سيرة الأنبياء، فاعتنقت شقيقة السندي فكرة الامامة، وكان من آثار ذلك أن أصبح كشاجم حفيد السندي من اعلام الشيعة في عصره. انها سيرة تملك القلوب والمشاعر فهي مترعة بجميع معاني السمو والنبل والزهد في الدنيا والاقبال على الله.))

ثمة مشترك متواصل وسلسلة مترابطة ومحكمة بين الإمامة منذ خط الشروع وهي الصبر على المحن والمكاره من خلال وقوف الطغاة أباً عن جد وعلى طريقة أسلافهم بمواجهة الحق وتنحيته وإبعاده عن المراتب الإلهية التي اختار فيها الأئمة الأثنى عشر وهي إمامة مولى الموحدين ويعسوب الدين وقائد الغر المحجلين النموذج الإنساني ومولى الثقلين علي بن أبي طالب -عليه السلام- ثم الأئمة من ولده لذلك أخذ السيف مأخذه، وسلاح السم، والتضييق والتشرّيد، فنال الأئمة المعصومين سهام الغدر، والتنكيل، والعنف، والاضطهاد، والحصار الاقتصادي، وسلب الحقوق من فدك.. والسقيفة.. والإقصاء عن الإمامة والخلافة، والخروج على النصوص القرآنية  المنصوص عليها في آيات التطهير -والقربى- والمودة- والتصدق ومئات الشواهد القرآنية، والسنة النبوية وأحاديث المصطفى بإتباعهم وإمامتهم من بعده –والتي سنبينها بفصل آخر، مع ذلك تنكر الطغاة لهم بالأفضلية والإتباع، وأثبتت سيرتهم عظمة اصطفائهم واختيارهم الإلهي للأمة والإنسانية من خلال سيرتهم المكللة والمتوجة بمناهضة الباطل والوقوف إلى جانب الحق مهما غلت التضحيات وبذلك فازوا بالاستئثار بحصد محبة قلوب عشاقهم، فيما أصبح الأعداء لآل محمد في مكبات النفايات في تأريخ البشرية..

وفي هذه الدراسة الإجرائية بتطبيقها على إمامنا المعصوم السجين نرى كيف الإمام كظم غيضه من أجل الرضا لخالق السموات والأرض، وتلك المقاومة السلمية الاحتجاجية لعدم مداهنة الباطل لبني العباس الذين أوغلوا بحقدهم حد الإسراف والولوغ بالدماء الزكية والأنفس الطاهرة المطهرة وعدم حرمتها من خلال استباحتهم بالسجون وسمل عيون محبيهم وتشريد أتباعهم ومناصريهم..

سجن يوسف (ع) سجن الكاظم (ع)

ثمة ظروف قاسية عاشها الأنبياء؛ وكذلك الأولياء؛ فالطاغوت يعمد إلى تحجيم وتهميش وإقصاء كل من يدعو إلى التخلق بأخلاق الكتب السماوية وإتباع التعاليم الإلهية، هذا المشترك بين رسالة الأنبياء والأئمة من أحفاد آل محمد - صلوات ربي عليهم أجمعين- دفعوا ضريبته بالسجن والتنكيل... فلما رأى النبي يوسف الصديق -عليه السلام -  خوفه وخشيته  على دينه من إغراء نساء مصر وزليخة.. قال عليه السلام: (السجن أحب الي) وذلك لكي يتخلص من مكرهن، وكيدهن، وإيقاعهن له بمكائد الشيطان، فطلب -عليه السلام- الخلاص منهن خشيةً على دينه، وكان السجن هو خلاصه من محنته.

ولكنّ الله تعالى استجاب دعوته ليحقق الإصلاح حتى داخل تلك المعتقلات الرهيبة للملوك الفراعنة القساة، فسجن نبي الله يوسف عليه السلام، فالمعتقل له صار مكانا للدعوة الى دين الله نزلاء السجن وهداية الكثير، وكان معززاً ومكرماً محبوباً يمتثل لآرائه الجميع، ومن حب زليخة ليوسف أن بعثت إلى السجان.. وأمرته أن يضرب يوسف لكي تسمع أنينه وصوته، وكان السجان قد أحبه ولا يمتثل لضربه بشكل موجع جداً، ومن حب زليخة ليوسف أن بدأت ترسل إليه الثياب والطعام وكان في غاية التكريم، الى أن خرج من سجنه بعد سبع أو ثمان سنوات من سجن زاويرا وأصبح عزيز مصر وسيدّها، وكان خروجه من السجن بمرسوم ملكي وجميع أهل مصر استقبلوه بالسرور والارتياح  ونثروا عليه الورود والرياحين.. وإمامنا كاظم الغيظ -عليه السلام- تعرّض لمحنة السجن وآلامه ليتفرغ لعبادة ربه، وقد عاش

زمن الطغاة كالنبي يوسف الصديق -عليه السلام- الذي عاصر حكم الفراعنة؛ فعاصر إمامنا المقدس - نزيل الطامورات المظلمة - بعد تسنّم منصب الإمامة خلفاً للإمام جعفر الصادق -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- عام 148هـ وعاصر في سني إمامته 148-183 أربعة من حكام بني العباس تتمثل في بقية ملك المنصور 136-158 ثم ملك ابنه المهدي 159-169 ثم ملك ابنه الهادي موسى 170-169ثم ملك هارون الرشيد 170 - 193، واستشهد  إمامنا الكاظم -عليه السلام- بعد مضي ثلاث عشرة سنة من ملك هارون مسموماً في حبس السندي بن شاهك يوم الجمعة لستٍ بقينَ من رجب سنة 183هـ  وله من العمر نحو خمس وخمسين سنة.

وفي ظل تلك الأنظمة المتوارثة المستبدة والمنشغلة بملذاتها الدنيوية وتثبيت أركان ممالكها الهشّة القائمة على دماء وجماجم العلويين وبني هاشم؛ كان إمامنا الكاظم يتصدى كما يقول الكاتب علي موسى الكعبي ((ترك إسهامات علمية واسعة ورصيداً معرفياً لا ينضب، فقد واصل نشاط مدرسة آبائه المعصومين عليهم السلام، وكان له دور كبير في رفدها بعلومهم الغراء وسننهم السمحاء، مما له الأثر الفاعل في ترسيخ مبادئ العقيدة الصالحة وتربية نخبة من أصحابه الرواة والفقهاء، المؤلفين أمثال: علي بن يقطين ومحمد بن أبي عمير وهشام بن الحكم وغيرهم، الذين يعدّون القاعدة المؤمنة بمرجعية الإمام عليه السلام ويشكلون الإمتداد الروحي  والفكري له في أوساط الأمة، وتتأكد الحاجة إلى مثل هذه الجماعة الصالحة في زمان الإمام الكاظم -عليه السلام- بسبب سياسة القهر والإقصاء المفروضة عليه من قبل السلطة ))..

إن القاعدة الأبستمولوجية التي انطلق منها إمامنا السجين المكبل بأغلال الحقد العباسي، هي رصد  الانحراف، وبناء القاعدة من خلال نشر الوعي الفقهي المستند على فقه جده المصطفى، متبنياً البحوث العقائدية والكلامية، التي أسس لها إمامنا جعفر الصادق وأهل بيته المتوائم والمتماهي مع القرآن الكريم، فمنهجية مدرسة الإمام جعفر الصادق -عليه السلام- تعد الركيزة التي استقى منها  الإمام السجين معايير حركته  العلمية.

فكما استقى الجميع من علم الصادق وفقهه، يذكر الجندي ((إنقطع أبو حنيفة إلى مجالس الإمام طوال عامين قضاهما بالمدينة، وفيهما يقول: (لولا العامان لهلك النعمان)- وكان لا يخاطب صاحب المجلس إلا بقوله "جُعلت فداك يابن بنت رسول الله" ولقد تحدى الإمام الصادق عليه السلام في مجلسه أبا حنيفة ليختبر رأي صاحب الرأي فيسأل: ما تقول في محرم كسر رباعية الظبي ويجيب أبو حنيفة: يابن رسول الله لا أعلم ما فيه. فيقول له الإمام الصادق -عليه السلام- أنت تتداهى. أو لا تعلم أن الظبي لا تكون له رباعية!

فإذا جاء ابن شبرمة وحدهُ يسأل عمّا لم يقع - كدأب تلاميذ أبي حنيفة ومدرسة الكوفة - لم يتردد في دفعه، بالحسنى: ذهبَ اليه ذات يوم يسأله عن القسامة في الدم فأجابه بما صنع النبي. فقال ابن شبرمة: أرأيت لو أن النبي لم يصنع هذا، كيف كان القول فيه؟ فأجابه: أما ما صنع النبي فقد أخبرتك به..)