الشورى منطلق حضاري نحو التغيير

حسن الهاشمي
 
مما لا يختلف فيه اثنان إن أبرز ما نختلف فيه عن بقية الكائنات الحية... أننا بشر، ولابد أن نعيش مع من يماثلنا من البشر، والسعي الحثيث لتحقيق الهدف السامي الذي خلق الإنسان من أجله، وهو صيانة الدنيا والآخرة من الآفات والنكبات والأهوال، وليست الصيانة سوى التعايش السليم الهادف الذي يؤثر بدوره على مدى العلاقات الحميمة التي تربط فيما بين بني البشر.
ويتجلى هذا المعنى واضحا إذا عرفنا أن القرآن الكريم هو أول دستور مكتوب عرفته الإنسانية ( جاء ناظما لشؤون الدين والدنيا معا، ومنه اقتبست الإنسانية مثلها، وطرق التقنين المكتوبة لحماية الفرد والجماعة في علاقاتهم العامة والخاصة، شاملة بذلك الجنسين الذكر والأنثى، وجاعلة الإنسانية كلها من أصل واحد، لا فرق بين عربي وأعجمي، وبين أبيض وأسود، إذ الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله) (الشورى في الإسلام- محمود بابللي- ص33) وكذلك أحبهم إلى الله وأكثرهم حظوة وقربا عنده، ألزمهم لطاعته وامتثال أوامره ونواهيه( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (سورة الحجرات- آية 13) وبهذه المقاييس العظيمة الجليلة، تسقط كل المحسوبيات والقوميات والجغرافيات والعرقيات والإثنيات... وغيرها التي غالبا ما تكون سائدة في العلاقات المادية.
ومن البديهي القول أن اليد الواحدة لا تصفق، وأن الاثنين خير من الواحد وأن اعلم الناس من جمع علوم الناس إلى علمه، وأعقلهم من جمع عقول الآخرين إلى عقله، ولا اعتقد أن الذي يرنو إزاء الحل الأمثل لمشاكل الحياة أن ينزل الميدان لوحده، فالإنسان مهما بلغ من العبقرية والذكاء فانه لا يستطيع أن يرى قفاه... وهكذا غوامض الأمور لا يمكن إدراكها وفهمها إلا باجتماع الأفكار والعقول، خصوصا وأن الله قسم العقل بين عباده... وعلى الإنسان أن يضم عقول الآخرين إلى عقله حتى يتجنب المزالق، ويهتدي سواء السبيل.
إن التجارب والعقل والنقل كل هذه الأمور ترشدنا إلى تبني المبدأ العظيم (مبدأ الشورى)، لما فيه من الخير الوارف، ولما فيه من كوامن التقدم والتطور والإبداع لاسيما في عالمنا الإسلامي الذي هو أحوج ما يكون إليه اليوم من أي وقت مضى.
من المؤكد أن الإنسان مهما بلغ من الذكاء والعظمة، فانه لا يصل إلى مرتبة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم) باعتبار انه ليس بحاجة إلى الأخذ بآراء الآخرين لأنه مسدد بالوحي الإلهي، وبطبيعة الحال أن الذي يتحمل أعباء الرسالة يكون أكثر ذكاء وفهما من الآخرين، فإذا عرفنا كل ذلك، فلماذا أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يشاورهم في الأمر؟
إن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم) نفسه يجيب عن هذا التساؤل بقوله(أما أن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا ومن تركها لم يعدم غيا) (تفسير الدر المنثور- ج2، ص90) ليتضح أن الهدف من مشورة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأصحابه ليس لاكتساب المعلومات أو صيانة النفس عن الخطأ والاشتباه، بل يمكن أن يكون أحد الأمور التالية:
اختلف أهل التأويل في الهدف من المشاورة على أقوال، قال ابن هشام( وشاورهم في الأمر أي لتريهم أنك تسمع منهم، وتستعين بهم، وإن كنت غنيا عنهم، تألفا لهم بذلك على دينهم) (سيرة بن هشام-ج3، ص123) 
(وذكر ابن جرير مشاورة أصحابه في مكائد الحرب، وعند لقاء العدو وتطييبا منه بذلك أنفسهم، وتألفا على دينهم، وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم وإن كان الله عز وجل قد أغناه بتدبيره له أموره... وقال آخرون: أمره في ذلك وإن كان له الرأي وأصوب الأمور في التدبير، لما علم في المشورة من الفضل، وقال بعضهم، ليتبعه المؤمنون بعده) (تفسير الطبري-ج4، ص100) 
وذكروا وجوها أخر منها: لإجلال الصحابة، واقتداء الأمة بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولا يرونها منزلة نقيصة، ولئلا يثقل عليهم استبداده بالرأي دونهم، ولارتقاء المستوى الثقافي والفكري للأمة، ولمعرفة المسلم الواقعي من المنافق، ولمعرفة الرأي والنظر من عوام الناس.
( والآن نرى في أي المواضيع كان يشاور الرسول الأعظم أصحابه؟ صحيح أن كلمة الأمر في قوله تعالى(وشاورهم في الأمر) ذات مفهوم واسع يشمل جميع الأمور، ولكن من المسلّم أيضا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يشاور الناس في الأحكام الإلهية مطلقا، بل كان في هذا المجال يتبع الوحي فقط، وعلى هذا الأساس: كانت المشاورة في كيفية تنفيذ التعاليم على أرض الواقع) (الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل- الشيخ الشيرازي - ج2، ص749) 
وكذلك آية(وأمرهم شورى بينهم) فاستعمال ضمير(هم) أي أن الأمور العائدة إلى المسلمين في تدبير شؤونهم الحياتية، فهذا موكول لهم وتركت تفاصيلها إليهم مما سماها بعض الفقهاء بمنطقة الفراغ، وهي تلك المنطقة التي ليس فيها نص واضح، وإنما وضع المشرع لها حدودها وأطرها العامة وقواعدها الفقهية، وترك التفاصيل إلى الأمة لتختار الأسلوب المناسب. فمجال الشورى إذن ينحصر في الأمور التطبيقية للأحكام، أو الأمور التنظيمية الأخرى التي لم يرد فيها نص قاطع، والتي تمس مصالح المسلمين في شؤونهم العامة والخاصة، وعلاقاتهم مع الغير.