الأدوارُ التكامليّة للعبادات في الإسلام

حميد الطرفي

 

لقد كرّس الصراع المرير بين الفضيلة والرذيلة ، الحق والباطل ، الخير والشر ومنذ نشأة آدم عليه السلام على هذه الأرض الحاجة الى مشروع إصلاح يتبنى الفضيلة والحق والخير والهداية الى سبل السلام . ومشروع الإصلاح هذا جاء ليُعزز ما تحمله النفس الإنسانية من نزوع فطري نحو هذه القيم وقناعات يختزنها العقل السليم ولكنها قد تقصّر في توضيحها أو شحذها او الانطلاق بها إلى الآخر"  فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ" (البقرة :  213) تأكيدا للفطرة وإقامة للحجة وشحذا للهمة وتوضيحا للسبيل وإنارة للدليل فواجهوا ما واجهوا من عتاة ظلمة وطغاة مردة فلم يثنهم ذلك عن المضي في طريق الحق واحدا بعد الآخر "  لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ " (البقرة : 285)

 لقد شكّلت الأديان وبما لا يقبل الشك الوجه الأبرز للحياة البشرية ومنذ أقدم العصور ولم تخلُ امة أو شعب أو جماعة من آثار الدين منحوتات أو معابد أو رسوم في الجانب المادي وعادات وتقاليد وأعراف ودول في الجانب المعنوي .

يخطأ من يظن أن الديانات وخاصة التوحيدية الكبرى جاءت لتنظم علاقة الفرد بربه عبر طقوس روحانية أو حركات جسدية ولو كان الأمر كذلك لما لاقى رسل الله في هذه الديانات ما لاقوه على أيدي الفراعنة والطغاة والأباطرة من نفي وتشريد وقتل وصلب ، ما داموا لا ينازعونهم في سلطان أو يحرّضون عليهم رعيتهم بإشارة أو بيان .

إن قيم الفضيلة ليست أمورا غيبية وتمارين روحانية يؤديها العبد ليبتعد بها عن واقع الدنيا وحاجاتها فيقبع في معبد أو بيعة أو غار لا يرى الناس ولا الناس تراه ، وان كان من ذلك شيء فهو النادر لحاجة ماسة تخصّ العبد نفسه ، بل هو إحقاق لحق ونهي عن ظلم وتوجيه لحالة أفضل من العيش وإبطال لعادة ضارّة وإقامة لعادة حسنة هذا ناهيك عن تدخل الدين في معاملات الناس من بيع وشراء ورهن وإيجار وقصاص وديّات وزواج وطلاق و...و..  .

من هنا جاءت عبادات كل دين سماوي لكي تنعكس على هذا الواقع والإسلام  أوضح الأديان في هذا الجانب إذ لا يختلف اثنان انه دين ودنيا ، عقيدة ونظام ، مجتمع ودولة فالمتأمل في اي عبادة فيه يجدها تواصلا مع الله  فرعها اليه وجذرها في المجتمع  لا ينفك عن الناس فردا كان أو أسرة أو مجتمع بأسره . بل أن كل عبادة فيه لا تخلو من وجه من أوجه الارتباط بالغير سواء كان هذا الغير فردا أو سلطة لترتّب على ذلك قبولا أو اجزاء  وصحة او بطلانا .

دعونا نتأمل الصلاة مثلا وهي بمقدار كونها صلة بين العبد وربه لكن كم هو ثواب صلاة الجماعة قياسا إلى صلاة الفرادى حتى أن العابد لو تتبع الاخبار الواردة في ثواب صلاة الجماعة لما فوت منها فرضا إلا في اضطرار ، وصلاة الجماعة اجتماع بالآخر وحديث معه وتفقد لحاله واطلاع على شؤونه وتوحيد في الاداء وفي الفهم وفي الأهداف فكلّما اقترب مجتمع من بعضه كلّما توحّدت همومه وآماله ، فهي بذلك عبادة مجتمعية منظمة تعزز الانتماء وتقوّي جذور المودة والإخاء  . ثم هل يجوز لعابد أن يصلي في مكان غير مباح اي أن للغير حق متعلق فيه أو يتوضأ بماء مغصوب ؟ كلا طبعا ،  كل هذا يعطي صورة واضحة عن العبادات في الإسلام كونها مرتبطة بعضها ببعض ومرتبطة بحقوق الغير من جانب آخر 

واذا تأملنا  فريضة الحج العبادية فلا نحتاج الى عناء في كشف آثارها الاجتماعية ومدلولاتها السياسية ونتائجها الايجابية في خلق شعور بالعزّة والفخر والنشوة والرفعة بالانتماء لهذا الدين ولا يخفى ما لهذا الشعور في تعزيز المنعة وتأكيد القوة أمام الخصم والدفاع عن الثغور الاسلامية والدفع المعنوي لروح الجماعة ووحدة الانتماء .

وكم يظنّ المرء بفرض الصيام عبادة خالصة بين العبد وربه وانقطاعا اليه وتبتلا بين يديه وامتناعا عن ملاذ الدنيا واتصالا به وحده لا شريك له بمقدار ذلك يستشعر المتأمل جمع الاسرة على مائدة واحدة وتزاور الاقرباء وزيارة مراقد اولياء الله وزكاة الفطرة وحصرها بفقراء الحي او المنطقة او المحافظة وعدم إخراجها الا مع تعذّر الحصول على فقير كل ذلك يعد غمسا للعبادة في المجتمع أو هو غمس للعبادة في الحياة الفاضلة .

ما نريد قوله أن العبادات في الاسلام يتكامل بها الدين وتتعزز بها شرعة سيد المرسلين وتوفر للداعين الى دين محمد( ص) واهل بيته الأطهار أفضل السبل وأيسرها ، فبإمكان الداعي الى الله ان يذكّر بالصلاة في ايام الصوم ويذكّر بالصوم في صلاة الجماعة ويذكر بالعدل في ايام الحج .

إن ماتبقى من تماسك اجتماعي في المجتمع المسلم هو ناتج من تكامل العبادات في الاسلام فاذا ما تعرّضت أيّ من هذه العبادات للإهمال والتقصير -لاسمح الله- فان كامل المنظومة العبادية ستتأثر مما ينعكس سلبا على الواقع الاجتماعي ويتوهم من يعتقد ان قيما بديلة ستملأ هذا الفراغ  إذ أنّ من لا أصل له لا قرار له قال تعالى : "  َمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ  " ( ابراهيم : 26) وانا أعني بالأصل هنا ان القيم لا تنمو من فراغ بل تحتاج الى بيئة حاضنة ومنظومة مترابطة تنمو فيها  فاذا ما فارقنا قيمة معينة لاستبدالها بأخرى فانها ستكون غريبة عن هذا الوسط وليس فشلها لغرابتها فقط بل لأنها لا تنتج الى في رحمها الاصلي الذي ترعرعت فيه مع باقي أخواتها هذا ان كانت انتجت هناك ، وإلا فهي مستورد فاسد .

إن العودة لعباداتنا الأصيلة كلّا لا يتجزأ هو السبيل الأمثل لاستقرارنا ونجاحنا وتفوقنا ، العودة الى صلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وصيام تصوم فيه الجوانح قبل الجوارح وحجّ هو سفر الى الله وهجرة إليه في حضرات قدسه  بعد أن  نبرّ الفقير ونُطعِم المحتاج كل ذلك يكمّل بعضه بعضا  حين ذاك سنستشرف عظمة الإسلام وأثر العبادات فيه ، ونتذوق حلاوة الإيمان ، ونحقق أفضل النتائج على صعيد البناء والإعمار والحضارة معا.