الدول النامية والتحديات السياسية والثقافية والاقتصادية

البروفيسور علي عبد فتوني

تعيش الدول النامية في عصر يشكل نقطة تحول خطيرة في تاريخ البشرية ، فقد تلاشت فيه الحدود والمسافات ، وأصبح لكل حدث معاصر إنعكاسات مباشرة على العالم أجمع . إن هذه التطورات أعادت إنتاج مشروع إفتراس العالم بالأنياب والمخالب التي تكونت نتيجة للتطور العلمي الجديد ، إنها مشروع للسيطرة يدخل من باب الإقتصاد ، ومن باب الثقافة ، مشروع يركز على القوة في يد واحدة لأجل أن يفتت المجموع ولأجل السيطرة على المجموع. ولا يبالي هذا النظام للخصوصيات الثقافية للآخرين إذا لم تتعارض مع مشروعه للسيطرة حيث أنها في هذه الحالة ستتحول الى مجرد صور فلكلورية تبعث التسلية حيث تفقد قدرتها على أن تكون قوة ممانعة. لكن بمجرد أن يكون هذا المضمون الثقافي مشروع ممانعة في مواجهة مشروع التسلط ، تبرز ضده القوة لتدميره بكل قساوة وبقوة القانون ، من خلال إستخدام المؤتمرات التي تستهدف تهديم الأسرة ، أو التي تستهدف تدمير الإقتصاد ، أو تستهدف القضاء على السيادة وإعطاء الشرعية للتدخل في صميم خصوصيات كل شعب ، وإستخدام  شعار حقوق الإنسان والمؤسسات الدولية التي تتيح  شرعية دولية للتدخل في شؤون الدول والشعوب ، وذلك لتفتيت تلك الدول الى كيانات صغيرة. وينبغي أن لا يغيب عن البال أن الدول الكبرى عندما تنتدب نفسها لحل مشكلة ما فهي لا تتدخل لحلها ، وإنما لتعقيدها وغالبا" ما تكون هي مثيرتها في الأساس .

وقد تجلت بكثير من الوضوح والتحدي إثر الأزمات الداخلية التي نعيشها وما نتج عنها من إحكام السيطرة على أهم الموارد في العالم وأبرزها منابع النفط ، وبعبارة لا تحتاج الى دليل بعد حسم الصراع لصالح الدول الكبرى والإطباق على الطاقة المحركة للإقتصاد العالمي إطباقا" كاملا" ولأمد طويل. هذه المسلمة يعرفها كل من يتعاطى الشأن السياسي من له دراية  لو متواضعة بمجريات الأوضاع السياسية والإقتصادية والثقافية ، إن محليا" أو إقليميا" ، أو على المستوى العالمي .

 رغم ذلك ، مازالت الدول النامية رهينة قسمة العمل الدولية ، كمنتج  للمواد الخام . وقد أضاعت الفرصة التي كانت متاحة لها للتنمية أصبحت نتيجة سياستها التنموية الخاطئة أكثر إعتمادا" تبعية لقطاعها الأولي ، وقد إنعكس ذلك بإضعاف موقعها وقدرتها التفاوضية في قسمة العمل الجديدة ، وهي تتعرض الى التهميش والإستبعاد ،  يضاعف من تأثير هذا التهميش عدم الإنسجام والتباعد في المواقف تجاه التحولات الجارية عالميا" ، أو إتجاه المشروعات المطروحة عليها إقليميا" ، وهي تجبر فرادة ومجموعة على القبول بما يطرح عليها.

ورغم وضوح وراهنية المخاطر التي تهدد مشروع الدول النامية الحضاري وهويتها التاريخية والثقافية فإنها مازالت بعيدة عن أي موقف تضامني وتنسيقي جدي في ما بينها ، وهي تسعى منفردة لإيجاد حلول خاصة بكل منها ، رغم إقتناعها بأنها لن تستطيع الخروج من دائرة الخطر فرديا" .

إن هذه الوضعية تطرح بجدية قضية التنمية في الدول النامية، مع الإشارة الى التجارب التنموية التي عرفها العالم الثالث سواء منها ما تم بإسم النهضة  بناء الإستقلال أو ما كان يجري بإسم الثورة أو ما هو جار الآن بإسم الإنفتاح ، جميع هذه التجارب قد كرست نوعا" مشوها" من التنمية سمتهُ الأساسية هي تنمية الفوارق .

فالمسألة التي تفصل حضاريا" بين المدينة والريف ، وبين الأغنياء والفقراء ، بين النخبة العصرية والنخبة التقليدية ، بين الموقف الحداثي والموقف التراثي ، لا تزداد إلا اتساعاً  وعمقاً . وخطورة هذا  الوضع ليست محصورة في ما يطبعه من ظلم إجتماعي ، بل هناك جانب آخر أشد خطورة ويتمثل في كون نظام الإندماج على الصعيد العالمي يشد إليه القطاع العصري والنخبة العصرية ، ويكرس تبعيتها النهائية لنظام الهيمنة العالمي إقتصاديا" وسياسيا" وثقافيا" . إن تعميم نظام السيطرة والتسلط  على الصعيد العالمي وترسيخ القطرية في دول العالم الثالث وتنمية الفوارق

داخل كل قطر من أقطاره ، معطيات تتكامل وتتشابك لتطرح  بجد مستقبل المشروع النهضوي لهذه الدول .

فالمطلوب إذن ، على هذا المستوى ، ليس إصلاحا" تربويا" ينأى عن الروح التجارية فحسب ، ولا إصلاحا" إقتصاديا" يبتعد عن النزعة الإستغلالية للناس ، ولا إصلاحا" سياسيا" يتجنب التلاعب بمقدرات الشعوب من الإنماء معا " فحسب ، بل إن البديل المطلوب هو إنماء  إقتصادي وإجتماعي وثقافي شامل متكامل ، سليم قابل للإستمرار  دون الأضرار ، تتساوى فيه الثقافة والحضارة ، إرتقاء وتقدما" حقيقيا" . ويجب أن تنطلق الإستراتيجية المستقبلية للدول النامية من مجموعة من المبادئ والإتجاهات الأساسية أبرزها ، إحترام حقوق الإنسان ، وإطلاق الحريات الديمقراطية ، والعمل على تعزيز دور الدول التنموي وتأكيد هذا الدور من خلال الأخذ بالإعتبار مصالح غالبية المواطنين وتطلعاتهم نحو المزيد الديمقراطية والعدالة الإجتماعية . بالإضافة الى الحد من نفوذ رأس المال الأجنبي ، ومنع سيطرته على قطاعات الإنتاج الوطني ، وتعميق التكامل والتعاون الثقافي والإقتصادي والسياسي ، والسير بشكل جدي نحو تشكيل كتلة موحدة ذات مشروع تنموي وحضاري مشترك . وضرورة تنسيق وتوحيد المواقف بين الدول النامية في مواجهة المشروعات المطروحة في المنظمات الدولية لإكساب هذا الموقف الوزن والقوة الكافيين ، وإصلاح وتطوير المؤسسات والهيئات القومية لتكون عامل قوة لها جميعا" ولكل دولة على حِدة .

الجدير ذكره في هذا المجال ، أن الدول الكبرى تعمل على إضعاف دور الدول النامية ، وتعزز في هذه الدول الفقر والمرض وتحبط إمكانيات التطور المستقبلي ، وتفرض عقوبة الحصار الإقتصادي الدولي ، وتجويع شعوبها  أو التهديد بإستخدام القوة والعنف ضدها مما يخل بمبادئ الإعلان الدولي لحقوق الإنسان  يتجاوز قواعد العلاقات بين الدول التي يفترض أن تقوم على الإحترام المتبادل ، وإحترام السيادة الوطنية ومعالجة المشكلات المعلقة بالطرق السلمية .