!عولمة الديكتاتورية

حسن الهاشمي
إن النظام الديمقراطي الحقيقي يختلف عما هو موجود حاليا في ما يطلق عليه (الدول الغربية الديمقراطية) والتي تجري فيها الانتخابات وهي غالبا مجيرة، حيث أن المال المجتمع في أيدي القلة، يجمع حول نفسه الجماعات الضاغطة والإعلام والضمائر المشتراة، وبذلك يكون الحكم بيد من يريده رأس المال لا بيد من يريده الشعب، وهذه  ديكتاتورية مغلفة بغلاف من الديمقراطية والحرية، وتكون النتيجة الاستبداد، لكنه مشوب بشيء من الحرية الصورية، ولا علاج للشعب في مثل هذه الحكومات إلاّ أن يراقب عدم تجمع المال، وإنما ينتفي(التجمع) إذا كان المال في قبال خمسة أشياء فحسب (العمل الجسدي، والعمل الفكري، وشرائط الزمان والمكان، والعلاقات الاجتماعية، والمواد الأصلية) وحينذاك يكون المال بيد الكل، كل بقدر حقه الطبيعي، وليس هناك تجمع غير مشروع للمال، ولذلك لا يكون للمال قبضة على الإعلام والجماعات الضاغطة والضمائر، ويكون الدور لإرادة الشعب في من ينتخبه.
أما الدول العربية والإسلامية التي فيها مجالس الشعب، والأنظمة الملكية التي بجانبها سلطة تمثيلية أو تنصيبية، أو المجالس التشريعية والتنفيذية والقضائية في زماننا الحاضر، فهي غنية عن التعريف، إذ أن معظم هذه المجالس- إلا ما خرج بالدليل- ما هي إلا بيادق يتلاعب بها السلطان المستبد كيفما يشاء، فهي لا حول لها ولا قوة، بل أنها تردد كالببغاء ما يقوله الحاكم!! وفلسفة وجودها مردّه إلى يقظة الشعوب الحقيقية، التي أضحت تخيف الحكام المستبدين، فعمد هؤلاء الحكام إلى التظاهر بان الحكم للشعب، وفي الحقيقة أن الشعب بعيد كل البعد عما يخطط ويجرى باسمه، أين هذه المؤسسات من قانون كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته؟!، وأين هذه المجالس من مبدأ الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يشمل جميع المسلمين!؟ وأين هذه اللجان من مبدأ اشراك الأمة في اتخاذ القرار، وصيانة الحاكم من الانحراف؟!.
وإذا ما طالب المرء بحقه، ومارس الشورى في حياته، سيتولد عندنا وبمرور الزمن مجتمع صالح رشيد، تكون عاداته وتقاليده كلها صالحة، وستنبثق تبعا لذلك سلسلة متراصة من الخير والصلاح والإصلاح، وستولد مؤسسات مجتمع مدني ولجانا استشارية وتعاونيات وأحزابا وصحافة حرة، تراقب الحكام والمسؤولين على أن لا يحيدوا عن جادة الصواب، أما في المجتمع الذي يقوم على أساس العقلية الضيقة، وعلى أساس الأنانية والسلوك المنفرد، وفي غيبة الشورى والحرية ستنمو في ذلك المجتمع بذرة الانحطاط والإسفاف والذلة مما يؤدي إلى حالة الانتقام التي ستستفحل بين أفراده، وانه لا يتحمل أية عادات أو تقاليد مغايرة لطريقته وسلوكه في الحياة، لذا تراه يلجأ إلى الانتقام، وهذا سيؤدي إلى سلسلة طويلة من حالة الفوضى والحقد والضغينة تسود ذلك المجتمع، بخلاف المجتمع الصالح الذي يقوم على أساس النصح والتسامح، فانه قد يرتكب أفراده خطأ ما، ولكنه لا يتحول إلى حالة من الحقد والانتقام وإنما يمتص ذلك الخطأ، ويسامح مرتكبه، وتقال عثرته وتغفر زلته.
وعلى هذا فالاستشارة ليست أمرا تجميليا أو زائدا عن حياتنا اليومية، بل أنها حالة طبيعية حضارية، تستسيغها الفطرة الإنسانية، بل وتحبذها على ما سواها، لأنها مدعاة لتطور الإنسان، وتفتق عقله وإبداعه، وبالتالي سيؤدي إلى رقيه ورفعته في كل شؤون الحياة، علاوة على ما ذكر فان الاستشارة تعطي ثمارها سريعا حينما تصبح جزءا من العمل والإجراء والتطبيق، كما الملح حينما يعطي تأثيره في الطعام.
أما الديكتاتورية فإنها إذا ما عشعشت فمن شأنها أن تلغي العقول، وتحكم العقل الأوحد، ولا ضير أن يستشير الحاكم المستبد، ولكن استشارته تكون منصبة لدعم حكمه وسلطانه، وليس لصالح المجتمع وتطوره، وهذا ما يخلق وضعاً كارثياً لا يعرف مدياته إلاّ من اكتوى بناره وسحق تحت حوافره، ولازلنا نحن شعوب العالم الثالث نئن تحت وطأة الإستبداد في الحكم الذي يسخر العباد والبلاد من أجل خدمة الزعيم أو الحاكم أو الملك أو الأمير ... إلخ تعددت الأسماء والهدف واحد وهو تبديد الثروات وتسخير الإمكانات لتقوية حكمه وسلطانه ونزواته الشخصية، وما الكوارث والمظالم والمآثم التي تترى علينا من كل حدب وصوب إلا نتاج الأنظمة الديكتاتورية التي ابتلينا بها فهي وبال على المجتمعات الإنسانية تقتل فيها روح الإبداع والتطور والحياة، ولهذا جاء الرفض القاطع من قبل العقل السليم- لكل أشكال الاستبداد مهما كانت مسوغاته ومهما كانت تبريراته ودوافعه.
ومن الغريب في الأمر إن الدول المستبدة قامت بتصدير النظام الشمولي للشعوب المغلوبة على أمرها ليس بالإقناع وحسن السيرة ولا بالانتخاب والاقتراع وإنما بالدم ورائحة البارود، حقا إنها ديكتاتورية من نوع فريد تقتحم الشعوب من دون استئذان يمكن تسميتها في عالم الغرائب بـ (عولمة الديكتاتورية!!).