وليد الكعبة

بحث: صباح محسن كاظم

دراسة الشخصيات المؤثرة بمسيرة الإنسانية مهمة شاقة لكنها تبث النشوة بالروح.. وتضيء العتمة بزوايا العقل، فالشخصيات التي تمثل المشترك الروحي والأخلاقي والتربوي بالبشرية هي ليست لدين دون آخر بل رسالتها إنسانية شاملة.. وشخصية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام من سنخ تلك الشخصيات الأممية العابرة للتأريخ والجغرافية.. كما مدحه القرآن بالكريم عند مبيته في فراش ابن عمه النبي المصطفى محمد –صلى الله عليه وآله – تُعد منقبة ومزية تخصص بها الإمام علي عليه السلام حتى ورد مدحه بكتاب الله القرآن الكريم  أجمعت المصادر التاريخية على ولادة الإمام - علي بن أبي طالب عليه السلام في الكعبة كما ورد بتحقيق باقر شريف القريشي في موسوعة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:

"ولد أمير البيان ورائد العدالة الإنسانية الإمام علي عليه السلام في يوم الجمعة الثالث عشر من رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة وبالحساب الميلادي كانت ولادته سنة 600م، وقد ولد قبل البعثة النبوية باثنتي عشرة سنة".

 ولد في أبرك يوم من أشرف شهر في أقدس بقعة فقد ولد يوم الجمعة الثالث عـشر من رجب داخل البيت الحرام.. فإن ولادته مزية خاصة لم يتحل بها أحد سواه نصت عليها جميع المصادر التاريخية، عندما كانت فاطمة بنت أسد تطوف حول الكعبة المـشرفة وجاءها المخاض توسلت إلى الله ببيته الحرام أن تلد ولدًا في هذا المكان، واذا بالجدار ينشق لتضع الطهر الطاهر المطهر في أقدس

وهنا بيت شعري للشاعر الموصلي عبد الباقي العمري:

أنت العلي الذي فوق العلا رفعا        ببطن مكةَ وسط البيت إذ وضعا

ولادة مختلفة لا كسائر البشر حين يشق جدار الكعبة لتضعه فاطمة بنت أسد، التميز بتلك الولادة محطة من محطات عمره الذي تتخلله المواقف الممدوحة من القرآن والنبي والصحابة، لقد ولد منذورًا لله وللنبي وللإسلام، هدية الله إلى الإسلام. ولد علي على فطرة الإسلام حيث وفى لهذا البيت حقه من حين ولادته حتى استشهاده في بيت الله مسجد الكوفة ووفى حق البيت بعد فتح مكة حين هشَّم وحطم الأصنام المتعلقة به مع ابن عمه رسول الهدى محمد. ربنا يخــتار ولادة المرتـضى في بيته ألا تـكون هذه منقبة لم تتحقق لأحد سواه؟!

قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "إن فاطمة بنت أسد جاءت إلى أبي طالب لتبـشره بمولد النبي فقال أبو طالب: اصبري سبتا أبـشرك بمثله إلّا النبوة، وقال السبت ثلاثون سنة وكان بين رسول الله وأمير المؤمنين. ثلاثون سنة".

- أسماؤه:

حيدره: وهو من أسماء الأسد وذلك لشجاعته الفائقة، وجدت أمه حين ولدته قسمات القوة في جسمه، كما توسمت فيه الإيمان والصلابة في الحق حيث لا يداهن فيه ويبقر الباطل في صميمه ليخرج الحق منه، ذكر ذلك مفتخرا حين بارز عمرو بن عبد ود العامري في الخندق:

أنا الذي سمتني أمي حيدرة           كليث غابات شديدٍ قسورة

اسم أبيه أبو طالب بن عبد المطلب، واسم أبي طالب- حيث أن أبا طالب كنية- عبد مناف واسم عبد المطلب شيبة الحمد وقيل عمران.

- كناه:

كان الناس يكنونه بأبي الحسن، وأبي السبطين، أما الرسول فقد كناه بأبي الريحانتين( )، فقد روى الإمام أحمد بن حنبل- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام:

"سَلَامٌ عَـلَيْكَ أَبَـا الرَّيْحـَانَـتَيْنِ مِنَ الـدُّنْيَا، فَـعَنْ قَـلِيلٍ يَــذْهَبُ رُكْــنَاكَ وَاللهُ خَلِيفَتِي عَلـَيْكَ"، فلما قبض النبي صلى الله عليه واله قال علي عليه السلام: "هَــذَا أَحَدُ الــرُّكْنَيْنِ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللهِ-صلى الله عليه وآله وسلم"، فلما ماتت فاطمة عليها السلام قال عليه السلام: "هُوَ الرُّكْنُ الْآخَرُ الَّذِي قَالَ رَسُولُ الله".

وكنّاه الرسول بأبي تراب. وبعد التفحص في النصوص التاريخية والمصادر العديدة حول نشأة هذه التسمية أرجح رأيين فيهما:

أن سبب التسمية أن المصطفى رآه نائمًا تسفي عليه الريح التراب فأنهضه من نومه وقال له مخاطبًا "انهض يا أبا تراب".

وقد قال رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم: "إن عليًّا مني وأنا منه، وهو وليُّ كل مؤمن بعدي".

وقال:  "النظر إلى وجه علي عبادة".

أجمع المؤرخون على أن عليًا كان أربعة من الرجال، أدعج العينين عظيمهما، حسن الوجه كأنه قمر ليلة البدر عظيم البطن عريض ما بين المنكبين، لمنكبه كالسبع الضاري لا يبين عضده من ساعده، عظيم الكراديس أغيد، كأن عنقه إبريق فضة أصلع ليس في رأسه شعر إلا من خلفه، كثير شعر اللحية. إذا مشى للحرب هرول، ثبت الجنان قوي، ما صارع أحدًا إلا صرعه..

- مواقفه بالسلم والحرب:

لم أعرف أحدًا أكثر لحوقًا والتصاقًا وقربًا من رسول الله في جميع المرويات التاريخية غير علي، في الحرب والسلم، في الحـضر والسفر، وفي الليل أو النهار، كان ملازمًا له كظله.

وأقربهم في المنزلة الخصيصة إلى قلب رسول الهدى، إذن لابد من توفر مؤهلات خاصة - يتمتع بها هذا الرجل - ميزته عن أقرانه من الرجال. من قربى ومن صحابة الرسول الأكرم إلى نفسه، فهو باب مدينة العلم، وحامل الراية، وفاتح الحصون، ومحطم الأوثان، تتفتح الحكمة من لسانه. ذاد بسيفه عن وجه الرسول المصطفى، في كل الغزوات إلا تبوك. فهو غرس النبي كان أبوه أبو طالب شيخ الأباطح وبيضة البلد حاميًا مدافعاَ عن رسول الهدى، محتضنًا إياه حتى في سفره للتجارة للشام حيث كان يأخذه معه، وكانت فاطمة بنت أسد أحب النساء إليه، حتى في وفاتها قام الرسول بخلع ثوبِه عليها والنزول في قبرها.

فأولى الرسول العناية الخاصة لابن عمه، فكان يسقيه إذا ظمئ ويطعمه إذا جاع. يحدثنا المؤرخ الطبري عن ذلك فيقول:

"كان من نعم الله على علي بن أبي طالب، وما صنع الله له وأراد به من الخير، أن قريشًا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله للعباس عمه – وكان من أيسر بني هاشم:

"يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصـاب الـناس مــا ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله، آخذ من بنيه رجلًا، وتأخذ من بنيه رجلًا فنكفّهما عنه.

قال العباس: نعم.

فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا:

إنّا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه.

فقال لهما أبو طالب: إن تركتما لي عقيلًا فاصنعا ما شئتما.

فأخذ رسول الله عليًا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرًا فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله حتى بعثه الله نبيّا".

أبعد هذا الفخر والعز والسمو ما هو أفخر وأعز وأسمى منه؟

أنت أهل للفخر والعز والسمو أيها الإمام الخالد الذي يقف على شرفات التاريخ ملوحًا للأجيال بطلب الحقوق وتطبيق العدل، فأصبحت النموذج الإنساني المحتذى لدى البشرية بالتضحية لأجل المبادئ والمثل والقيم وحقوق الأيتام والفقراء والمساكين، وأحببت الجميع لا فرق لديك بين مسلم ومسيحي كلهم شركاء بالإنسانية بالحقوق والواجبات دون التمايز بين الأعراق والأديان.

ألا تكفي هذه المزية في فضل الإمام علي عليه السلام سائر الناس يجعلك قدوته لذلك صلته وعلاقته بالنبي محمد –صلى الله عليه وآله- كانت حميمية وروحية وتشاركية وتواصلية في الرسالة بكل ظروفها السرية والعلنية، لذلك قال رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-: "والذي بعثني بالحق نبيًا ما أخرتك إلا لنـفسي، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. وأنت أخي ووارثي".

إنَّ مؤاخاة النبي لعليّ حين آخى بين المهاجرين والأنصار دليل قوي وحجة بالغة لا يصمد أمامها أي رأي مخالف، وبرهان ساطع على أن النبي ليس له كفؤٌ غير الإمام علي، وإلّا لاتخذ له أخًا من الأنصار، واتخذ لعلي أخًا كذلك، لان المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هي أن يتخذ المهاجر أنصاريا والأنصاري مهاجرًا: "أنت أخي في الدنيا والآخرة".

ونحن نرى أن أبا بكر كان يرى لعلي هذه المنزلة أيضًا فقد رآه مرة فقال: "من سره أن ينظر إلى أعظم الناس منزلة من رسول الله، وأقربه قرابة، وأفضله دالة، وأعظمه غناء عن نبيه، فلينظر إلى هذا".

فهذا تأكيد آخر لعظمة شأن الإمام عند الرسول الأكرم سيد الأنام. واعتبره خليله:

"إن خليلي ووزيري وخليفتي في أهلي، وخير من أترك بعدي، ينجز موعدي ويقضي دَيني علي بن أبي طالب".

وذُكر الإمام عند عائشة فقالت: "ما رأيت رجلا أحب إلى رسول الله منه". وقد سئلت أيضا من أحب الناس إلى رسول الله أجابت: "فاطمة، قال - الراوي- لسنا نسألك عن النساء بل الرجال، قالت: زوجها".

شجاعة وعلم الإمام علي

لم يكتب أي مؤرخ وأديب من المسلمين والمسيحيين والمندائيين وسائر الأديان عن شخصية الإمام علي عليه السلام إلا وغاص بتفاصيل شجاعته المدهشة والمذهلة وهو يجندل الخصوم، وقد تفوق بآدميته كفارس بشهامة قلة نظيرها لأنه يمتلك أخلاقيات الرسل والأنبياء بتعامله مع الأعداء، وفي لهوات الحرب وضراوتها وشدة اضطرامها لم يطارد مدبرًا ولم يفتك بأسير ولا بمستسلم.

بطبيعة المقاتل هي الفتك في المعارك، فلن تظل لديه شفقة ورحمة، وهو ذو بطش وسطوة تتطلبها المعارك وضراوتها، وما تتضمن من خداع وكذب واحتيال من أجل الغلبة. لم أجد هذه الصفات في الإمام علي؛ مع كونه اشجع العرب بل اتصف بعكسها من لين ومقدرة وعفو.

كم من الرجال نجوا بإخراج عوراتهم أو بجبنهم بالمواجهة بعد تبختر بأذى النبي الكريم بصلف. لكن أمير المؤمنين شيمته العفو وهو قادر على حزِ رؤوسهم وتخليص الأُمة من شرورهم. في صفين، في أحد، في الجمل ألا تعد هذه مناقب وسجايا تضاف في ديوان فضائله ومناقبه.. هنا جمع علي سلام الله عليه الأضداد من القوة والرأفة. قد يتخذ الشجعان شجاعتهم للتهور والاعتداء على الإنسانية أما الإمام البطل، المسلم، المغوار فإن شجاعته لصالح الإسلام والرسالة المحمدية. لا تمثل البهتان والزيف.

إنها البطولة الحقة والشجاعة النادرة الفريدة التي تمثلت فيها الفروسية والعزة وصلابة الأُصلاء وهو ينشد النصر بالعفة والشرف الجهادي. فانظر ماذا أجاب حول أسئلة الموت في سبيل الله: 

"قيل لأمير المؤمنين: ما الاستعداد للموت؟

قال: "أداء الفرائض واجتناب المـــحارم والاشتمـال على الـمكارم، ثم لا يبالي إن وقع على الموت أو الموت وقع عليه، والله لا يبالي ابن أبي طالب إن وقع على الموت أو الموت وقع عليه.

- في النحو:

أجمع النحاة وأرباب اللغة وجميع المهتمين باللغة العربية أن الإمام هو الواضع الأول لعلم النحو فعن أبي الأسود الدؤلي أنه قال:

ألقى الإمام إلي صحيفة فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم الكلام كله اسم وفعل وحرف فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبا عن معنى ليس باسم ولا فعل واعلم يا أبا الأسود أن الأشياء ثلاثة ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر".

- في الأخلاق:

هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟ لقد شغلت حرية الإنسان الفلاسفة وأهل الأديان منذ أقدم العصور وأبعدها وما زالت تشغلهم حتى اليوم، فلقد اختلف فيها اليهود بعضهم مع بعض، والمسيحيون فيما بينهم، والمسلمون كذلك، فذهبت فرق إلى أن الإنسان مغلوب على أمره ولا حرية له في تـصرفاته ولا وجود لشـيء من شخصيته، وإنما هو كريشة في مهب الريح وأكدت فئة أخرى من الأديان الثلاثة الحرية التامة للإنسان، والمسؤولية الكاملة في جميع تصرفاته وأفعاله، فقال الإمام بحرية الإنسان بأنه:

"لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد. وإن الله سبحانه أمر عباده تخييرًا، ونهاهم تحذيرًا، وكلّف يسيرًا ولم يكلّف عسيرًا، وأعطى على القليل كثيرًا. ولم يعصِ مغلوبًا، ولم يطع مكرهًا، ولم يرسل الأنبياء لعبًا، ولم ينزل الكتب للعباد عبثًا، ولا خلق السموات والأرض وما بينهما باطلًا ذلك ظنّ الذين كفروا فويلٌ للذين كفروا من النّار".

فالله سبحانه لم يقهر عباده على فعل الطاعة ولا عـلى اجتناب المـعصية، ولو فعل ذلـك لبطل الثواب والعقاب لان الفعل والحال هذه مستند إلى الله لا إلى العبد، ومعنى قوله أمر تخييرًا ونهى تحذيرًا إن الله أراد من عباده أن يفعلوا الواجب ويتركوا المحرم باختيارهم وإرادتهم وحذّرهم في النهي أنهم متى عصوا وخالفوا عذّبهم وعاقبهم، ومعنى قوله لم «يعص مغلوبًا» أن العبد إذا خالف وعـصى لم يكن هو غالبًا والله مغلوبًا لأنه سبحانه قادر على صده عن المعصية ولكن تركه وشأنه ليكون قادرًا مختارًا وبالتالي مستحقًا للعقاب وكذا إذا أطاع العبد وامتثل فانه لم يكرهه على الطاعة بل تركه واختياره ليستحق الثواب بجدارة وسأل الإمام سائل عن معنى القضاء والقدر فقال:

"الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية، والمعونة على القربة إليه، والخذلان لمن عصاه، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، كل ذلك قضاء الله في أفعالنا وقدره لأعمالنا".

وعلى هذا يكون معنى القضاء الأمر والنهي ومعنى القدر التمكين وإعطاء القدرة على الفعل والترك معًا أن لو قدر العبد على أحدهما دون الآخر لكان لا يستحق ثوابًا ولا عقابًا.

- في الزهد:

من خصاله الحميدة التي نعت بها الزاهد وذلك لما طبقه بمسيرته العصامية حتى إن كان زاهدًا يتخذ من سلوك الإمام علي منهجًا وسلوكًا، سمة وجودنا السعي من أجل الدرهم والدينار لتحقيق الرغبات فيما كان يزهد بالوجود نتداول ونتواصل فكريًا وحياتيًا عن زهد من قال: "أن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، يسد فورة جوعه بقرصيه، لا يطعم الفلذة في حوله إلا في سنة أضحية، ولن تقدروا على ذلك، فأعينوني بورع واجتهاد".

الصورة: محمد القرعاوي