التواصل منهج للتعايش السلمي في الاسلام

أ.د خميس غربي حسين العجيلي 
 جامعة تكريت / كلية الآداب
إن من طبيعة الناس أن يختلفوا , لأن الاختلاف أصل من أصول خلقهم , وان الحياة التي نعيشها قائمة على الاختلاف والتناقض والأضداد في أحيانٍ كثيرة , وهذا الذي أودعه الله تعالى في الإنسان , كان وراءه حكمة بالغة ,من بعد أن جعل هذا الكائن الإنسان , أكرم مخلوقاته وخليفته على الأرض. 
     
  إن هذا الاستخلاف يتطلب أن يشغل الإنسان أعمال شتى , ووظائف متنوعة , وهذا بطبيعة الحال لا يتحقق إلا بوجود الاختلاف بين الناس برؤيتهم للحياة , والتباين في الآراء , والتعدد في وجهات النظر . ومن ثَمَّ الاستعدادات النفسية والبايلوجية كل حسب إمكانياته وطاقاته واستعداده   . 
   والإسلام دين الفطرة والنظرة المتوازنة إلى الإنسان والحياة , ينظر إلى هذا الاختلاف  بروح ايجابية , لأنه سبب وحافز للعمل والتنافس بين المختلفين في أعمار الأرض وعمل الخير والصلاح , قال تعالى : (( لِكْلٍ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً , ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة , ولكن ليبلوكم في ما آتاكم , فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون )). 
   وأما النصوص من القرآن والسنة في موضوع الاختلاف في الدين والعقيدة كثيرة , وهي بطبيعة الحال تؤسس لفهمنا هذا , فثنوية الصراع بين الخير والشر موجودة , وهي تستمر إلى نهاية التاريخ , وهذا الاستنتاج يبين أن الأديان جميعاً قد تضمنت فكرة الخير والشر ,والدعوات فيها إلى نبذ الشر والتعاون على فعل الخير (( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)). 
 وبعد هذا الاختلاف فان الدعوات إلى الاعتراف بالآخر والتعايش السلمي بين الناس ظاهرة في القرآن الكريم , وهي تعد من صميم روح الإسلام وتعاليمه, قال تعالى : (( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة , وخلق منها زوجها , وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً, واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ))   . 
     يتضح من هذه الآية الكريمة , أنَّ الله تعالى رب الناس جميعاً , وأن أصلهم واحد , وتجعل الإنسانية وحدة واحدة , وهي تذكرهم بمنشئهم الأول , وتردهم إلى خالقهم الذي أنشأهم في هذه الأرض.
    وهذا الاختلاف هو للتعارف والتعاون , من اجل التعايش السلمي القائم على المحبة والمودة والتسامح , قال تعالى : (( ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم )) . والرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا ينطق عن الهوى , بين في حديث عن الذين يؤمنون بالله , وتعاونهم والتواصل فيما بينهم , واصفا إياهم بأنهم كالجسد الواحد بقوله : (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضوًٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )) . 
   إن من طبيعة الناس التباين في الآراء , لأن الاختلاف أصل من أصول خلقهم إذ تحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض , فخلافة الإنسان هذه الأرض تحتاج إلى وظائف متنوعة , واستعدادات شتى للقيام بالأعمال الكثيرة , والإسلام ينظر إلى هذا الاختلاف على أنه الحافز للتنافس بين المختلفين في عمل الخير والصلاح , قال تعالى : (( لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون )) وهذه الدراسة محاولة متواضعة , وهي ليست فريدة في هذا المجال , فمن المعلوم أن علماء الأمة قد ناقشوا هذا الأمر بالبحث والدراسة والتأصيل , إلا أننا نطمح أن يكون عملنا هذا  مع بحوث السابقين لَبْنَةً توضع في بناء الرؤية الإسلامية للاختلاف , وتقديم الإسلام الوسطي للتعامل مع الآخر , المختلف دينياً وعقائدياً , بعيداً عن الانغلاق والتعصب والتكفير , معتمدين في هذه الدراسة على مصدري التشريع الإسلامي , القرآن الكريم , والسنة النبوية المطهرة , فضلاً عن أقوال وأعمال السلف الصالح من المسلمين , الذين أسسوا لمنهج التآلف والتواصل , بغية التعايش السلمي بين مكونات المجتمع الإنساني على اختلاف توجهاتهم.    
  من هنا جاء هذا البحث للإجابة على التساؤل الذي يطرح , هل أن المجتمع الإسلامي مرتبط إلى حد ما بفكره الديني ؟ وهل أن الخطأ في تصرفات بعض أفراد هذا المجتمع مرتبطة إلى حد ما في أصل هذا الفكر الديني ؟ أم في سوء فهمه والجهل به , والانحراف عنه . وبعبارة أدق هل أن الشخصية الإسلامية بطبيعة فكرها الديني غير صالحة للتواصل والتآلف مع الآخر غير المسلم ؟ وهل أن هذه الشخصية قد تعرضت لأسباب التشويه مما جعلها غير قادرة على الانسجام مع الآخر ؟ والجواب الأولي على رأينا هو إننا دائماً ما نتكلم عن الفكر الديني الإسلامي دون أن نميز ما هو من أصله النقي , وما هو دخيل مدسوس عليه , أو عارض أو طارئ .     
    إن دراسة التواصل والتآلف بين الإسلام والآخر المختلف , ليس بحثاً نظرياً فلسفياً مجرداً , إنما هو بحث نابع عن قناعة تدعمها نصوص التشريع الإسلامي من الكتاب والسنة والاجتهاد , ونحن من وراء هذا لا نبغي دراسة هذا الموضوع للمعرفة الثقافية فحسب , إنما نبغي أن تستحيل هذه المعرفة إلى قوة دافعة لتحقيق مدلولاتها في التعامل مع الآخر المختلف , للإظهار الوجه الناصع للإسلام في تعامله وسماحته , التي حاول بعض السطحيين من المسلمين تشويهها برؤيتهم القاصرة عن فهم روح الإسلام الحقيقية , مما سهل الطريق على أعداء الإسلام إلى توجيه الاتهام إلى هذا الدين الحنيف بأنه لا يعترف بالآخر وانه يدعو إلى التطرف والعدوانية. 
    والحكم على الآخر المختلف مرجعه إلى الله , فهو الذي يحكم ويقضي كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى : (( قل اللهم فاطر السموات والأرض , عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون )) . 
    لقد جاء القرآن الكريم بتعاليم فيها هداية وإرشاد للناس أجمعين , قال لتعالى : (( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ))  . 
   ومما لا شك به أن المسلمين يؤمنون أن الأديان السماوية على أصلها كلها من عند الله , ويجب على أبنائها أن يتلاقوا جميعاً على كلمة سواء من عند الله, وأن أصول الإسلام الإيمان والتصديق بالأديان السماوية كلها , قال تعالى : (( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )), بل إن الإسلام يدعو إلى عدم التجريح وسب معتقدات الآخرين , حتى إن كانوا على ملة الشرك قال تعالى : (( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم )) ويظهر تحامل بعض من لم يفقهوا روح الإسلام والتعاليم التي جاء بها القرآن , ولم يمعنوا النظر في آياته الكريمة , التي لم تفرق بين  كتبه ورسله , في التعصب تجاه الديانات السماوية دون الأخذ   بقوله الله تعالى : (( والذين يؤمنون بما انزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون )). 
    لقد رسم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة الأسلوب الواضح والصحيح للتعامل مع أصحاب الديانات الأخرى وكانوا بررة وعدولاً معهم , يقول تعالى : (( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم , أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين )) , والدين الإسلامي يحث أتباعه على التعامل بروحٍ من المحبة والمودة والإنسانية مع غير المسلمين , وتاريخ المسلمين يشهد على التعامل بالحسنى مع غيرهم , فقد نعموا في ظل الإسلام بالرضاء والأمن والسلامة , وسار السلف الصالح على هذا الطريق. 
     وحتى يكون للمودة جسور مع الآخر بغية التعايش السلمي , فقد أجاز الإسلام لأتباعه أن يواكلوا غير المسلمين وأن يصاهرونهم , قال تعالى : (( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم , والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ))  ولا شك أن هذه التصرفات والسلوك والأعمال تخلق امتزاجاً بين هؤلاء وأولئك , فأخوال الأولاد سيكونون من غير المسلمين , وهذا يخلق امتزاجاً , والطعام معهم سوف يخلق ألفة ومحبة , وفي هذا رباط كبير أباحه الله بين المسلمين وغير المسلمين , مما يدل على أن الإسلام يرفض التعصب والانغلاق , وأنه دين الإنسانية السمحاء , يبغي الخير لجميع الناس , ويدعو إلى التواصل ومد أواصر المحبة. 
   ومن الصور الإنسانية العظيمة في الإسلام , أنه قد يدخل الابن الإسلام ويبقى الأب على ملته , وهنا يدعو الإسلام الابن أن يظل طيب الصحبة مع أبيه. مع اختلاف الدين , قال تعالى : (( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب اليَّ ثم إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون )).