تداعيات النظام العالمي الجديد

البروفيسور علي عبد فتوني/ لبنان

يشهد العالم اليوم تحولات كبيرة في العلاقات بين الدول والشعوب على المستوى الوطني والإقليمي والدولي ، وباتجاه إعادة تركيب نظام عالمي جديد يتراجع فيه دور الدول الوطنية، وينهار وتتقوقع الجماعات في خصوصيات عرقية وأثنية أو طائفية أو قبلية لحماية نفسها من المخاطر. والتقوقع في الهوية الفئوية يسقط قيماً عديدة ناضلت من أجلها الشعوب ومنها المساواة والحرية والمواطنة ، لأن الارتداد  الى الجماعة الفئوية ينمي العلاقات التقليدية الضاغطة على الفرد والمهددة في كثير من الأحيان لحقوقه الشخصية ولحريته . وحدها الدولة قادرة على بناء الإطار الذي يحمي حقوق الإنسان وحريته ، وعلى تأمين الظروف الموضوعية لقيام نظام ديمقراطي .

والحديث عن النظام الجديد ينصرف اليوم أساسا" الى النتائج المحتملة ، ومن هنا الإهتمام بما سيكون عليه النظام العالمي . هل سيظل نظاما" متعدد المراكز والأقطاب من جهة ، وهل سيبقى النظام الوطني نظام الدولة أو الأمة ، أو نظام الدولة الوطنية ، مكرسا" كواقع وكنموذج أم أنه سيفقد أهميته أو جدواه ؟

وهناك ظواهر أخرى طبيعية أولها العلاقة بالطبيعة ينتظر أن تساهم هي الأخرى بتفاقمها وإستفحالها في أحداث القرن المقبل . من ذلك مسألة السكان : فتزايد السكان في دول الشمال ضئيل ويميل في بعضها الى درجة الصفر أو تحت الصفر ، بينما يتجه في دول الجنوب ( الدول النامية ) نحو التكاثر أضعافا" مضاعفة . وترتبط بذلك مسائل عديدة كالهجرة وعدم كفاية المواد الغذائية . ومن ذلك أيضا"  مشكلة المياه وهي مشكلة يعاني منها كثير من دول الجنوب ، وهي مشكلة يتردد القول بشأنها في تشاؤم ينذر بأن الحروب المقبلة ستكون حول مصادر المياه . وهناك مشكلة التلوث وتأثيره على البيئة والغلاف الجوي للكرة الأرضية ، كل ذلك الى جانب التطورات المثيرة التي ينتظر أن تعرفها البيولوجيا والهندسة الوراثية وما قد يكون لها من تطبيقات قد تطال تكوين الإنسان وقدراته وإستعداداته .

الجدير ذكره ، أن في ظل النظام العالمي الجديد بدأت القوى الكبرى تتدخل حتى بين شعب وحكومته بدعوى حماية الشعب من حكومته ضاربة عرض الحائط بمبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية ، وحق تقرير المصير ، ويخرق ميثاق الأمم المتحدة عشرات الخروق .

لقد صار إختيار النظام السياسي والإقتصادي وشخص الرئيس في أي بلد من إختصاص الدول الكبرى . وتخرق السيادة الوطنية بحجة التدخل لأسباب إنسانية ولصالح حقوق الإنسان ،   وتفهم حقوق الإنسان من منظورها الغربي   وفق مصالحه . فلا يكون التدخل لصالح ما يزعم  من حقوق الإنسان إلا حيث تكون مصالحهم تقتضي ذلك ، بينما يتم تجاهل التنكيل العلني بالإنسان ، وإهدار أبسط الحقوق  وإزهاق الأرواح حيث تقتضي مصالح الدول الكبرى .

فعلى المستوى العالمي ، فإن النظام العالمي الحالي ، أيا" كانت تسمياتنا له ، يمر في مرحلة سيولة تتفرد فيه حتى الآن قوى عظمة وواحدة بالهيمنة عليه ، وتخطط لإستمرار تفردها بتلك الهيمنة ، وتستخدمها لتحقيق طموحاتها وفرض سياستها على العالم تحت لواء ما تسميه 

" الشرعية الدولية "  التي تعكس هيمنة الدول الكبرى ومصالحها وطموحاتها ونزواتها وغرورها ، ناهيك عن إزدواجية تلك الشرعية الدولية .

يبقى أن نقول إنه إذا كان الإستعمار ظاهرة تاريخية  معقدة ، فإن الإستعمار الجديد (النظام العالمي الجديد) هو من دون منازع أكثر تعقيدا" ، خصوصا"  وأنه لا يقتصر على أشكال الهيمنة التقليدية ولا يقتصر على الهيمنة الإقتصادية ، وإنما يتضمن أشكالا" متنوعة من الهيمنة السياسية والثقافية والإجتماعية .

فالتطورات التي حصلت في الصناعات الثلاث الكبرى ، الكمبيوتر والإتصالات وتكنولوجيا المعلومات ، أحدثت ثورة جديدة ساعدت في ربط العالم بعضه ببعض وتحويله الى ما أصبح يعرف بإسم "القرية الكونية".

 لقد كان لتزايد حركة وحرية إنتقال رأس المال عالميا" ، والإنخفاض الكبير في أسعار الإتصالات وتكاليف النقل وتوسع التجارة العالمية أثرها  البالغ في إقتصاديات الدول التي أصبحت أكثر ترابطا" ، كما أن الحدود أخذت تتلاشى تدريجيا" مع تزايد إنتشار إستخدام شبكة الأنترنت وقنوات التلفزيون الفضائية وغيرها من وسائط الإتصال الأخرى ، الأمر الذي أدى الى صياغة سلوكيات وأفضليات للجيل الجديد من الشباب على إمتداد العالم .