الهويّة الاسلامية وشبح العولمة

إسراء عزيز الربيعي

تُعرّف معاجم العلوم الاجتماعية والنفسية الهوية بأنّها مزيج من الخصائص الاجتماعية والثقافية التي يتقاسمها الأفراد ويُمكن على أساسها التمييز بين مجموعة وأخرى، كما تُعرّف على أنّها مجموعة الانتماءات التي ينتمي إليها الفرد وتُحدّد سلوكه، أو كيفية إدراكه لنفسه، وتعد مشكلة الهوية من اخطر المشاكل التي تواجه بناء العلاقات بطرق سليمة وسوية بين المجتمعات المختلفة عرقياً ولغوياً وثقافياً ودينياً.

وقد تنوعت الآراء بخصوص مفهوم الهوية ما بين مَن يذهب الى ان الهوية لها جوهر ثابت لا يحمل تطورا ولا تجددا عبر الزمن وبين مَن يذهب الى ان الهوية عبارة عن وهم لا اساس واقعي معقول له، ويؤمن اصحاب هذا الرأي بكونية الانسان وضرورة انتمائه للحضارة المعاصرة وللثقافة الغالبة لها، وبالتالي فالهوية هنا لها قابلية التحول والتبدل بحسب الظروف، وهناك رأي آخر يرى في الهوية أنها مفهوم قائم ولا غنى عنه ويمتلك طاقات كبيرة لاكتشاف الكينونة المختلفة والمتفقة بين الذات والاخر أو بين ثقافة وأخرى أو مجتمع وآخر مختلف.

وقد كانت الهوية في الأصل قضيةً فلسفيةً ومنطقيةً غرسها تطور العلوم النفسانية والاجتماعية التي بيّنت أنّ الهوية ليست فرديةً فحسب، بل هي قضية جماعية واجتماعية، تشمل الاختلافات والشعور بالانتماء بين الأشخاص والمجموعات على اختلاف انواعها ومسمياتها، وتهدف الهوية وفقاً لعلماء النفس الى العثور على الذات وفهمها من خلال مطابقة مواهب وقدرات الفرد مع الأدوار الاجتماعية المتاحة.

وفي ظل طموح العولمة الى اذابة الثقافات المختلفة في بوقفة ثقافية واحدة تنتهج مبادئ الايمان برأس المال وبالإنسان السوبرمان أو الإله الذي لا حدود لطموحاته وقوّته يواجه المسلمون مخاطر عديدة ولا سيما منهم الذين اتخذوا من ديار الغربة والعيش مع الآخر المختلف سبيلا في هذه الحياة.

وربما تعود ازمة المسلمين في تلمّس حدود هويتهم الخاصة الى ما يبعد من قرنين من الزمان حينما اكتشف المسلمون من خلال الغزو الفرنسي او حملة نابليون على مصر ومن خلال البعثات العلمية التي كانت تتوجه الى اوربا وترى بأم اعينها الفرق الكبير في نمط الحياة بين المجتمعات الاسلامية والمجتمعات الغربية مما ولد عند المسلمين نوعا من الصدمة الحضارية التي جعلتهم يعودون الى اغوار الذات لتفحص الكينونة الخاصة غير القادرة على اللحاق بركب العصر وبغية الاجابة عن التساؤل الكبير الناجم عن هذه الصدمة وهو، لِمَ تطوّرَ الآخرون وما زلنا نراوح في مكاننا الثابت ؟

وقد تعددت مواقف المثقفين المسلمين ازاء هذه الصدمة بين من نادى بضرورة اللحاق بركب الحضارة وهي دعوة لا يمكن ان تحقق نجاحها برأي اصحاب هذا الرأي إلا من خلال زحزحة الاطار المرجعي (الفكري والديني) للمسلمين والعدول عن فكرة اعتبار الدين الاسلامي هو المشكل الاساسي الذي تتبلور حول مبادئه هوية المسلمين.

فيما تمسك اصحاب الراي الاخر بهذا الاطار على اعتبار ان الانتماء الى هذا الاطار هو انتماء متأسس على استمرارية تاريخية وعلى ركائز ثقافية متينة والى نمط حياة مشدود الى بنيان ثقافي وانساني يشتمل على الاخلاق والعمران والاقتصاد والسياسة والآداب والفنون التي توصف بانها اسلامية وتمتلك تأثيرات عظيمة وكبيرة في مختلف الامم والشعوب التي اعتنقت فكرة الاسلام كفكرة مرجعية تفهم من خلالها الانسان والعالم والكون وما يتعلق بهما من امور وإشكاليات.

وخلال القرنين المذكورين عاش المسلمون أحداثاً جساماً رفعت من مستوى ضرورة العودة الى مفهوم الهوية الاسلامية وتفحصه، وإدراك قيمة أن يتبلور مفهوم واضح الملامح للهوية الاسلامية التي اهتزت مرة وصمدت مرات عديدة تحت تأثير تلك الأحداث الجسام، التي ابتدأت من احتلال البلدان الاسلامية مروراً بزرع إسرائيل في قلب العالم الإسلامي وانتهاء بتدمير بلدين إسلاميين هما (افغانستان والعراق) بحجة ملاحقة الإرهاب الذي يلقى كل الدعم والتأييد من الدوائر الغربية المسؤولة.

إن مقاومة مشاريع الهيمنة والاحتلال والمحو الثقافي خلال القرنين الماضيين يؤكد اعتزاز المسلمين بهويتهم الثقافية الخاصة، ويعزز قيمة أن تكرس مبادئ هذه الهوية وتوضح ملامحها الغائبة عن برامج التعليم والتثقيف في معظم الدول الاسلامية العولمة باعتبارها منظومة من المبادئ السياسية والاقتصادية ومن المفاهيم الاجتماعية والثقافية ومن الأنظمة الإعلامية والمعلوماتية، ومن أنماط السلوك ومناهج الحياة، وذلك هو العمق الفكري والثقافي والإيديولوجي لنظام العولمة الذي يهدف إلى اجتياح العالم وإرغام أهله على صبغة اقتصادية وثقافية وسياسية واحدة ولو دعت القوة الى تحقيق هذا السبيل !.

وبما إن العولمة عملية تهدف إلى هيمنة الفكر والثقافة الغربية على الثقافات الأخرى بدعوى التعاون والتواصل وإزالة الحدود والمسافات بين الدول والشعوب، ولديها قدرات استثنائية للتغلغل وبالتالي للتأثير والالتفاف المدمر، ولذا فإن مواجهتها لا يمكن أن تحقق النجاح لما تملكه من قوة وإمكانيات ومقدرات اقتصادية رهيبة إلا من خلال تكريس مبادئ الاعتزاز بالهوية ومن خلال صياغة حديثة لنظرية تربوية إسلامية تكون في مواجهة التحديات والمخاطر، وهذه السياسة لابد أن تقوم على مبدأ التعلم الناجح والمبني على أسس رصينة، وعملية بناء مستمرة لشخصية الإنسان المسلم، ولمعارفه واستعداداته لتشمل الإنسان في مراحل حياته بدءا من الطفولة، وتشمل كل الأنشطة التي تتيح لكل إنسان أن يكتسب معرفة ديناميكية بالعالم وبالآخرين وبنفسه، بغية ادراك مقوماته الأساسية المتمثلة في اللغة والدين والعادات والتقاليد والأخلاق والتفاعل التي فقدها أو فقد جزءا منها خلال مسيرته الحضارية التاريخية الطويلة وخلال صراعاته التي سببت له الضغوط  المختلفة والداعية لعدم الاكتراث بهويته الخاصة.

وهذه القيم المجتمعة ستسهم في حماية الامة وافرادها كافة وستنهض بمسؤولية تقدمها واستعادة دورها الحضاري، المستلهم من تاريخها الطويل ومن ثوابتها ومواقفها غير المنهزمة أمام الآخر، الذي يسعى جاهدا لتشكيك الأجيال الحالية والقادمة من المسلمين بمخزونهم الحضاري وبقيمهم الأصيلة، تحت ذريعة أن العولمة كالرياح العاتية ستقتلع كل ما هو قديم وغير مناسب ومتعارض مع قيمها الجديدة في الجشع والهيمنة والانحدار الاخلاقي..