المشترك التوحيدي مدخلاً للحوار الديني بين أتباع الرسالات السماوية

ناصر الخزاعي

تقوم نظرية التوحيد على وجود إله واحد مطلق يتحكم في الكون ويبعث الأنبياء من خلال وحي سماوي للهداية والتذكير والوعيد، والسؤال المفترض هنا هل أن الاديان التوحيدية هي الأقرب الى تحقيق مبدأ التشارك الإنساني الواحد والعادل في هذه الحياة التي قد نرى فيها جوانب كثيرة تعكر صفو الحوار والتسامح والمحبة التي هي غاية من غايات الخلق الإلهي؟

تعود الديانات السماوية الى اصل مشترك واحد يرجع جذره الى النبي إبراهيم أبو الانبياء الذي أدرك وجود الإله ووحدانيته بعد ان تأمل طويلا في حركة النجوم التي كان يعبدها قومه وأدرك بفطرته أن هناك قوة غيبية تقف وراء حركة النجوم والكواكب من دون أن تكون لها قوة أو إرادة لولا هذه القوة الغيبية التي تقف وراءها والتي راح يبحث عنها بكل جوارحه لعله يهتدي إليها فيطمئن قلبه الوثاب إلى يقين مطلق لا يندم ولا يتحسر بعد الوصول إليه.

وبذلك فالنبي إبراهيم (عليه السلام) هو المؤسس الحقيقي للديانات السماوية الثلاث، وهو الأب الروحي للديانات الثلاث التي تلتقي عنده مشتركة بسمو الانتماء، وقد انتقلت عقيدته التوحيدية إلى ذريته جيلاً بعد جيل، وعلى اختلاف هذه الأجيال ابتداء من أولاده المباشرين (إسحق وإسماعيل) مرورا بيعقوب ويوسف وموسى وانتهاء بالنبي الأكرم الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا أول المشتركات التي يجب الالتفات إليها لابتداء أي حوار جدي بين أبناء الديانات السماوية الثلاث بهدف التقارب والتآلف وتبادل المصالح والمنافع المشتركة.

وقد واجه الأنبياء العظام للديانات الثلاث (موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين) أشد المحن وأصعبها في سبيل مقاومة الوثنية الطاغية التي كان عليها دين أقوامهم المتمسكين بعبادة الأوثان والمعددين للآلهة، وكان النبي موسى (ع) مثالاً بالصبر من أجل احداث ثورة كبرى في المفاهيم البالية والموروث الديني لقومه الذين كانوا يعبدون أشياء ما أنزل الله بها من سلطان كالكواكب والظواهر الطبيعية والطواطم وأرواح الأسلاف والأصنام، وغير ذلك من دون الله.

وقد نجح نبي الله موسى بعد أن جازف بحياته وتعرض لصنوف الأذى والإذلال لينجح دينه التوحيدي بعد سبعة قرون تقريبا في بلورة مفهوم لوحدانية الله، الذي أخذ بمرور الزمن ينمو ويزدهر بفعل التضحيات الجسيمة التي قدمها نبي الله موسى(ع) في سبيله.

وهكذا عبد أتباع موسى الرب (يهوه=الله) الذي نصّت عليه شريعتهم دون أن تذكر صفات جسدية له أو شكلا معينا أو هيئة، بقدر ما حثت على ضرورة الاعتقاد بوجود اله ترجع اليه الامور وعلى اتباع موسى طاعة اوامره واجتناب معاصيه في كل الأراضي الكنعانيّة التابعة لمملكة يهودا التي نشأت تسمية (اليهودية) نسبة إليها.

أما المسيحية فهي أقرب إلى أن تكون صورة معدلة لليهودية وذلك عن طريق مزجها بأفكار (هيلينية = رومانية قديمة) هي في رأي اليهود الملتزمين بتعاليم اليهودية الأم، أفكار مضللة ومناقضة للعقيدة اليهودية لان المسيحية كانت تذهب آنذاك الى ان اله اسرائيل قد خلق الانسان على صورته، مهيئاً وسيلة للبشر للخلاص بعد أن تجسّدَ بصورة إنسان هو السيد المسيح عيسى (ع)، وهذا ما عدّه اليهود كفراً وعودة للوثنية الهيلينية بعدما قطعت اليهودية شوطا طويلا في طريق التوحيد الشاق قبل قرون.

وهكذا تشكلت مع مرور الزمن فكرة الثالوث التي هي ليست من أصل المسيحية التي جعلت المسيح ولداً لله، مع أن فكرة التثليث لم تكن واردة في الإنجيل بالمرة، لكنها لأسباب عديدة مباشرة وغير مباشرة أصبحت العقيدة الرئيسة للمسيحية وإن الأب والابن والروح القدس ما هي الا أقانيم ثلاثة أبدية في طبيعة الله، وهو ما لم يرد على لسان عيسى الذي كان نبيا وعبدا لله كما عبّر عن ذلك مراراً.

أما الاسلام ونبيه خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) فله دور كبير في تصحيح الأفكار السابقة التي حرفت فكرة التوحيد وهي الفكرة التي أولتها النصوص المقدسة في الأديان الثلاث حيزا كبيرا من الاهتمام، فالله لم يرسل الأنبياء إلا ليكونوا دعاة لتوحيد الله ونبذ فكرة تعدد الآلهة وتعدد المعبودات التي لا تخدم الإنسانية ولا الإنسان كما أثبتت التجارب التاريخية الطويلة من عمر الانسان على هذه الأرض. الإسلام حاول أن يعيد مسار التوحيد إلى مساره السليم، وعلى أساس أن البشر قادرون جميعا على تنفيذ هذه الفكرة بما فطرهم الله عليه، مع ما لهذا المسار من خطورة تتمثل في رغبة الناس بمقاومة ما يمس عقائدهم حتى لو كانت خاطئة، وهو ما دفع ثمنه الكبير نبينا الأكرم حينما تعرّض للنفي والتشريد والتهديد بالقتل ولكنه تحمل ذلك من أجل الهدف السامي في إحقاق الحق في العدل الإنساني والمساواة والكرامة وهي أهداف لا تتحقق ما لم يدين الناس كلهم بمعتقد التوحيد الإلهي والخلاص الدائمي من الوثنية والشرك والعصيان بكل أشكالهم البغيضة.

إن الأديان – إذن، وعلى عكس ما يرميها البعض بإشاعة الكراهية بين البشر- قادرة بما تمتلك من جسور للتواصل أن تسهم في تأسيس مبادئ سليمة لحوار حضاري قادر على لملمة الجراح النازفة بسبب التعصب والجهل، وقادرة على توحيد الضمائر على كلمة سواء، تجمع البشر على الخير والمحبة والسعادة والاحترام المتبادل..