كربلاء القديمة وجوارُها في كتاب جديد

قراءة: د. علي ياسين

لمدينة كربلاء تاريخها الطويل السابق للحدث الكبير (62هجري ذكرى استشهاد سيد الشهداء) الذي صنع منها مدينة عالمية وأيقونة إسلامية، فقد كانت قبل هذه الواقعة العظمى بمثابة الجسر الرابط للهجرات السامية والعربية بين بلاد الشام والجزيرة العربية من جهة وسواد العراق وبلاد فارس والهند من جهة أخرى ، كما كانت أول مركز استيطاني سامي ثم عربي في منطقة الفرات الأوسط لأنها تربط الطرق البرية الرئيسية عبر فضائها الجغرافي المرتفع قليلا والمنبسط والقريب من المياه لكل البلدان البعيدة والقريبة منها.

وفي ظل موقعها الجغرافي المتميز والأحداث التاريخية التي مرت بها هذه المدينة ذات الثقل التاريخي والروحي يحاول الدكتور (حامد ناصر الظالمي) أستاذ اللغويات والحضارة الإسلامية في كلية التربية بجامعة البصرة أن يقرأ الوجود الحضاري والثقافي والاثني لهذه المدينة المقدّسة ابتداء من فجر التاريخ وحتى سنة 62 هجري في كتاب جديد صدر أواسط العام 2021م عن دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد حاملا عنوانا لافتا، هو: (كربلاء القديمة وجوارها، قراءة في الوجود الحضاري والثقافي والاثني من فجر التاريخ وحتى سنة 62 هجري).

يوزّع الأستاذ الظالمي كتابه المكون من أكثر من ثلاثمائة صفحة على أربعة فصول غلب عليها التناول الجغرافي الذي تتخلله معلومات وافية بما يخص طوبغرافية المكان وقيمته التاريخية والثقافية من خلال التلميح إلى التفاعل الثقافي والفكري لسكان هذا المكان الذين جمعتهم منافع ومصالح شتى على الرغم من اختلاف مكوناتهم وديانتهم وثقافتهم عبر الفترة التاريخية التي يتوقف عندها الكتاب المذكور وضمن المدة الزمنية التي سبقت حادثة الطف التي عدها الباحث نقطة فاصلة بين زمنين مختلفين عاشتهما أرض كربلاء سكانا وثقافة وتنوعا.

ففي فصله الأول المعنون (وحدة الأرض العراقية في الفرات الأوسط) يشير الكاتب الى طبيعة العصور التاريخية التي عاشها إقليم ما يسمى اليوم بالفرات الأوسط، وهي عصور درج المؤرخون على تقسيمها إلى ستة عصور رئيسة تبدأ من مرحلة ما قبل السلالات قبل حوالي خمسة الاف عام مرورا بعصور فجر السلالات والعصرين البابليين القديم والوسيط فسقوط نينوى سنة 612 ق. م وانتهاء بالهيمنة الساسانية على المنطقة التي تكللت بوصول طلائع الفتح الإسلامي عليها أواسط القرن السابع الميلادي، وبالنظر الى الطبيعة الجغرافية والطوبغرافية الواحدة لهذه المناطق التي تشمل كربلاء والنجف وبابل وضواحيهما الحالية فإن تاريخ هذه المنطقة أصبح تاريخا واحدا بسبب المرتفعات المحيطة بها من الغرب والتي تحميها من السيول والأعداء معا وانفتاحها من الشرق على الماء حيث نهر الفرات.

وفي الفصل الثاني ( الحيرة والكوفة) يتابع الباحث الجاد حديثه عن البؤر الحضارية المشعة حول كربلاء كالحيرة التي تمتد جذورها العمرانية والسكانية الى فترة تفوق في القدم العهد البابلي (ص 64) لكنها ازدهرت مع شيوع الديانة المسيحية فيها قبل مجيء الاسلام، وكانت تضم هي وما حولها من الأراضي أكثر من ستين ديرا من ديارات النصارى الذين عوملوا معاملة حسنة مع الفتح الإسلامي وكان أوج هذا التعامل مشهودا له زمن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان الدور الأكبر لهذه المدينة يتمثل من خلال توحيدها للهجات العربية المتنافرة ضمن لهجة واحدة مدونة كتابيا عن طريق الخط النبطي اللحياني، وهي لهجة أهل الحيرة الأقرب إلى فصاحة العربية وأسلوبها في التعبير والبيان التي طورها القرآن الكريم بعد نزوله على قريش أهل مكة لاحقا(ص 82 وما بعدها).

أما الكوفة فكانت وريثة الحيرة الحضارية، وهي بالحقيقة امتداد لمدينة (كيش) السومرية كما يذهب الظالمي موافقا البحاثة المشهور السيد سامي البدري، وقد اكتسبت الكوفة شهرتها في العصر الاسلامي بعد أن اتخذها الامام علي عاصمة سياسية له مستقطبا القبائل اليمانية الموالية له لمواجهة معاوية الطامح لانشقاق سياسي يحصر السلطة والمال والنفوذ بيد بني أمية دون غيرهم من المسلمين. وكانت أهم القبائل التي سكنت الكوفة زمن أمير المؤمنين هي (تميم ، أسد، بكر، خزاعة، مذحج، كندة، همدان، بجيلة... ص 93-94) أما النصارى من سكان الكوفة الأصليين فقد أحبوا أمير المؤمنين وأخلصوا له لما شهدوه من عدله وحبه للمساواة، واحترامه لرغبات من أراد أن يظل على نصرانيته منهم.

أما الفصل الثالث من الكتاب فيخصصه الباحث لإلقاء الضوء على كربلاء القديمة التي لا تحفظ كتب التاريخ عن تاريخها شيئا ذا بال قياسا بالحيرة والكوفة، فكربلاء هي في الاصل ( كرب ايلا) أي حرم الله طبقا للغة البابلية القديمة مع إمكانية وجود معان أخرى لهذه اللفظة التي يقف عندها الباحث مفصلا وشارحا، ومؤيدا للرأي الذاهب إلى أن تاسيس هذه المدينة التي كانت معبدا لبلدتي نينوى وعقر بابل القريبتين منها يعود الى العهد البابلي- الكلداني 539 ق. م، ومما أسهم في نشوء كربلاء القديمة هو خصوبة تربتها وقربها من نهر الفرات الذي يتفرع بالقرب منها الى عدة فروع أهمها نهر نينوى الموجودة آثارها اليوم قرب الهندية ونهر العلقمي الذي كان يسمى قديما نهر سورا ( ص118)، هذا فضلا عن أنهار أخرى صغيرة اتخذت مسميات عديدة عبر التاريخ. وقد أقيمت على ضفاف هذه الأنهار العديد من القصبات والقرى السكانية التابعة لخريطة مدينة كربلاء الحالية، والتي كان سكانها خليطا من يهود ونصارى ومن قبائل عربية وثنية حتى مجيء الإسلام الذي صهر هذه المكونات والعرقيات الاثنية داخل بوتقة واحدة تنطلق لبناء الإنسان وحضارته من مبدأ التوحيد وتعاليم القرآن السماوية.

ويلقي الكتاب في فصله الأخير الضوء على تاريخ المنطقة الواقعة غرب كربلاء فيفصل في تاريخ (عين التمر وشفاثا) التي اختلف الباحثون على أصل تسميتها خالطين بعض الأحيان بين المدينتين اللتين يرى الباحث أنهما مدينتان منفصلتان عن بعضهما وأن (شفاثا) التي تأخذ مسميات عدة بسبب صعوبة نطقها هي ليست عين التمر التي تقع غرب كربلاء متشكلة من مجموعة قرى أهمها (البردويل التي تضم زقورة البردويل القائمة حتى اليوم، الكسروية، عين التمر، محريجة، شمعون وغيرها) وتعد عين التمر من المدن الصحراوية المعتمدة على العيون، وكانت ممرا مهما للقوافل التجارية قبل الاسلام بين الشام والعراق والجزيرة العربية (ص 184) وكان سكانها القدامى من اليهود وقد أثبت بعض الرحالة القدامى أضرحة لبعض أنبياء بني اسرائيل في هذه المدينة، وكان من سكانها النساطرة من نصارى (عين التمر) التي يخلط الباحثون بينها وبين موضع يقال له (دومة الجندل) التي وقعت فيها حادثة التحكيم المشهورة بين الإمام علي (ع) ومعاوية، في حين أن الموقعين موجودان ليومنا هذا ومثبتان عند علماء الأمصار والجغرافية.

ولعل من يتمعّنُ في كتاب الدكتور حامد الظالمي، وفِي طريقة تناوله للتاريخ الحضاري المتعلق بكربلاء وجوارها سيجده باحثا ذا طريقة تجديديّة في كتابة التاريخ الحضاري العراقي، خصوصا وان للمؤلف كتبا منشورة عن حواضر عراقية أخرى كالبصرة وغيرها، فهو باحث محيط بموضوعه، وإن مراجعه الكثيرة عن تاريخ كربلاء تنبئ عن ذلك، مع الأخذ بالنظر أنه يسرد الوقائع بطريقة خاصة تشبع رواية الأحداث وقراءتَها بالتحليل وذكر الأسباب والنتائج، مما يجعل من كتابه هذا كتابا جديرا بالقراءة لكل من يهتم بتاريخ كربلاء وعمقها الحضاري الذي طغى عليه حدثها المأساوي المتمثل بلحظة استشهاد الامام الحسين عليه السلام الذي ابتدأ معه التاريخ الحقيقي لهذه المدينة.